لا يندرج تفصيل تلبية وزراء لبنانيين دعوة دمشق لافتتاح معرضها «الدولي» ضمن إطار السجال المحلي اللبناني الصرف. مهدت زيارة رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري إلى طهران للأمر، بما أوحى أن القيادة الإيرانية أفرجت عن مزاج، لا يحتمل تردداً، يروم وصل دمشق ببيروت سياسياً قبل أن يتم لها وصل طهران بالبحر المتوسط برياً.
وإذا ما أراد الوزراء الزائرون الذين اعتادت تياراتهم السياسية التحرك وفق أجندتي دمشق وطهران إحداث ضجيج صاخب حول ما يفترض أنه سلوك طبيعي يمارسونه منذ سنوات من دون وجل، فإن ذلك كان بمثابة إعلان من قبل طهران ودمشق و «حزب الله» عن تبدل قواعد اللعبة التي أنتجت رئيساً للجمهورية وأثمرت توليفة خرجت منها الحكومة اللبنانية الحالية.
والواضح أن الاجتهادات التي صدرت من داخل مجلس الوزراء في الادعاء بأن للزيارة طابعاً شخصياً ولا تمتلك مواصفات رسمية، تخفي داخل ركاكتها عزماً من قبل خصوم دمشق على عدم الصدام وتمرير العاصفة صوناً لديمومة الحكومة. في المقابل يشي التحدي الذي لجأ إليه الوزراء الزائرون بأن الفريق السياسي القريب من محور دمشق- طهران بات جاهزاً، وفق أمر عمليات مطلوب، لرفع السقوف داخل الصيغة التي أتت بالعهد، حتى لو كانت في ذلك مخاطرة تطيح بحكومة سعد الحريري.
على أن تأملاً للحدث يقود إلى استنتاج دينامية جديدة يريد «حزب الله» من خلالها حصد ثمار لبنانية لفلاحته في الحقول السورية خلال السنوات الأخيرة. وفيما انحشر خصوم الحزب في مطالبته بالخروج من سورية والعودة إلى لبنان، فإن الحزب يبلغ اللبنانيين أنه عائد يوماً وفق ميزان قوى آخر يملي قواعد جديدة وجب على ساسة لبنان أن ينخرطوا بها.
تعلن الزيارة في بعدها الرمزي أن نظام دمشق باقٍ ولن يتغير وأن من واجهات هذا البقاء عودة بيروت إلى أحضانه. وتواكب الزيارة في مناسبتها الاحتفالية إطلالة النظام السوري على المنطقة، وليس على العالم، من خلال إعادة إنعاش معرض دمشق الدولي، الذي لا تنطبق عليه صفة الدولية.
وفي الكلام عن الواجهة ما يخفي المسلّمة التي تريد دمشق تسويقها من أن بيروت باتت قيمة ساقطة في حسابات الأرباح والخسائر لمصلحة نظام سورية ورئيسه. ولئن ما زالت دمشق غير مدركة لمآل نظامها الحقيقي داخل مطحنة التفاهمات الأميركية الروسية، فإنها وطهران تعملان على صناعة «أمر واقع»، وتسعيان لتجنيبه شرور تلك التفاهمات وحصادها. ووفق تلك المقاربة يسقط لبنان داخل حسابات ذلك المحور طالما أنه ما زال خارج حسابات القوى الإقليمية والدولية الأخرى.
والحق أن بري الذي صمت كثيراً أثناء الأزمة السورية ولم يجارِ «حزب الله» في إرسال مناصريه الشيعة رسمياً للقتال إلى جانب نظام الأسد، لم يكن ليدفع باتجاه إعادة الوصل الوزاري مع دمشق لو لم يكن قد تبلّغ جدياً في طهران بأجواء لا تحتمل تدللاً أو تحفظاً، ولو لم يكن مدركاً لوجود فراغ دولي إقليمي مقابلٍ لا يعترض على هذا المسعى. وبالتالي فإن رضوخ الحكومة اللبنانية لمبدأ نسج وزراء لعلاقات «شخصية» مع نظرائهم الدمشقيين، لا يعدو كونه نفخاً في فراغ يعترف بقدرية مستقبل الترابط بين نظامي لبنان ودمشق.
غير أن اكتفاء المعترضين على ورشة التطبيع الجارية بين لبنان والنظام السوري بردود سطحية تشبه رفع العتب، يأتي أقل بكثير مما كان يتوقعه «حزب الله» وسفير دمشق في بيروت. والحال أن ظهور المعترضين بمظهر الحرص الممل على الحفاظ على العهد وحكومته، يجعل منهم رهينة أمر واقع سيحولهم حكماً من شركاء في الطبخ إلى مستهلكين نهمين لما سيطبخه الآخرون، بما سيجعل من عودة بيروت بيدقاً في يد محور طهران- دمشق تفصيلاً لن تلحظه مصالح الدول الإقليمية والدولية الكبرى.
قد لا يمتلك لبنان ترف معاندة أي تسوية كبرى يجري إعدادها في آستانة وجنيف وينشط انتاجها في غرف عواصم القرار الدولي. لكن سيكون من غير المفهوم تموضع لبنان المسبق في مواقع مهرولة متقدمة في الوصل مع نظام دمشق من خارج الخرائط والتفاهمات التي ستنتجها المداولات الدولية اللاحقة.
ولا يبدو أن «حزب الله» يملك هامشاً مريحاً في فرض خياراته اللبنانية على النحو الذي يعيد اللبنانيين إلى ذاكرة «السابع من أيار»، ولا يبدو أن طهران المربكة داخلياً وخارجياً تتحلى برشاقة تبرر الإذعان لإملاءاتها، ولا يبدو أن أجندات واشنطن وموسكو كما أجندات أنقرة والرياض تتيح مشهداً يعيد لنظام دمشق محورية دور نوستالجي بائد. بيد أن عجز المتحدرين من معسكر 14 آذار العليل عن توفير حد أدنى من المقاومة، سيجعل من مقاربة «حزب الله» التجريبية تمريناً حلالاً لا يقف ضده أي حرام.