سيسيل حبر كثير حول موضوع التسجيلات المسربة من سجن رومية، ومشاهد التعذيب المرعبة لعدد من الموقوفين الاسلاميين. فالفضيحة تناسب البلد المعدوم السياسة والاخبار والعائم على ثقافة النميمة والاحقاد وتطوير تقنيات الشتيمة واساليبها ولغاتها.
ما سرب من رومية فضيحة بلا شك. وجريمة من دون اي تجميل لواقعها ووقائعها. ووحشية لن تجد ما يبررها. الذهاب بها الى اقسى العقوبات لا مناص منه.
أبعد من هذا هي فضيحة تُشع باضاءات عديدة. هي اولاً تندرج في سياق تقاليد التخلف الحقوقي والانساني المرتبط بالبدلة العسكرية في هذا الجزء من العالم. البدلة بكل قطاعاتها. يصدف اننا امام نموذج علني اليوم، يحكي عن كثير مما لم يصلنا بالصوت والصورة، وبقي بين الجلاد وضحيته. هي جزء من التخلف العام للعسكر. لعقل العسكر. لثقافة العسكر. للبناء العلمي والحقوقي للعسكر، بالمقارنة مع ما نعرفه عن آليات الترقي في جيوش العالم حيث كبار الضباط هم جزء من النخبة الثقافية ومن نخبة المتعاطين بالشأن العام في بلدانهم.
وهي ثانياً تندرج في سياق تخلف فكرتنا نفسها عن السجن والتي نشترك فيها مع اصقاع كثيرة في العالم، دعك عن التخلف العام الذي ينطوي عليه مفهوم السجون حتى في أرقى الدول في العالم.
بهذا المعنى يحسب لوزير الداخلية نهاد المشنوق انه رفع منذ اليوم الاول لتعيينه وزيراً للداخلية، ملف السجون في لبنان بوصفه قنبلة موقوتة تهدد السلم الاجتماعي والاهلي في لبنان. ويحسب له انه حقق في حوادث سابقة واحال مرتكبيها على القضاء. ويحسب له انه فتح ابواب السجن امام منظمات دولية للمرة الاولى في تاريخ لبنان للاطلاع على واقع السجون. ويحسب له انه صال وجال بحثاً عن تمويل هنا ومنحة هناك لتعطيل هذه القنبلة قبل انفجارها في وجه الجميع. وهنا لا بد من سؤال بسيط لمديري الحملة على الوزير المشنوق: هل السجن اليوم، رغم وضعه المزري حالياً، هو افضل او أسوأ مما كان عليه قبل سنة؟
العجز عن الاجابة عن هذا السؤال بنزاهة، كونه يتطلب درجة عالية من التفكير النسبي والبراغماتية، في ظل خبر حادثة التعذيب، يكشف عن بعد أخطر في طبيعة تلقي الناس للخبر، وطبيعة ما أثارته من ردود فعل.
ردود الفعل على التسريب افرزت، شعبياً، نوعين منها، أكان بشكل معلن او مضمر. لا تهم هنا الهوية الدقيقة لمن قام بالتعذيب. أشارت مواد اعلامية الى كونهم ينتمون الى طوائف ومذاهب عدة، بمنطق تنصلي من البعد الذي ستتخذه الحادثة في ذهن الجمهور، هو لزوم ما لا يلزم. فمن نزل عليهم العذاب هم مساجين اسلاميون محددو الصفة والعقيدة والانتماء، في بلد يعيش على فالق الزلزال المذهبي بين السنة والشيعة. وبالتالي من عذبهم، هم شيعة في نظر الجمهور حتى ولو كانوا من غير اتباع المذهب الشيعي. لم يشذ عن هذا التصنيف المبتسر والمشحون اي من طرفي الجنون في لبنان، أكانوا شيعة او سنة.
متابعة المواد المرافقة للخبر على مواقع التواصل الاجتماعي تؤكد ذلك. جزء كبير من الجمهور الشيعي تداول الاشرطة بوصفه امتداداً ليد المُعَذِب، وبوصفه امتداداً لسلطته على جسد السجين الاسلامي السني المتهم بتفجير او بإعداد للتفجير في منطقة شيعية على الارجح. وأرفق التداول بالشريط بعبارات تؤكد هذا المنحى عبر التذكير بأن «اليد التي ستمتد الينا ستقطع«، او بوصفه المصير المحتوم «للتكفيريين والارهابيين«. اي إدغام الشريط ووقائعه بالمعركة الاوسع التي يخوضها، حزب الله، الحزب الحاكم للشارع الشيعي. فالشريط هنا جزء من عملية مقاومة التكفير والتكفيريين. ووقائعه تضع القائمين به في مصاف ابطال المقاومة التي تقاتل على الحدود والثغور. وهو بالتالي جزء من صورة «الانتصار« على الآخر، السني التكفيري.
أما الجزء السني من الشارع الذي تفاعل مع الشريط على مواقع التواصل الاجتماعي فكانت أكثريته تعبر عن ضيقها بكثرة العقلاء في الطائفة وفائض التسوويين وقلة المجانين الذين يوازنون جنون الشارع الاخر. الشكوى من الوزير المشنوق، هي شكوى من لاشعبويته ومن عقلانتيه ومن قدرته على التواصل مع الآخر، على قاعدة السياسة، وليس وفق تقاليد الحرب الاهلية القائمة، بين السنة والشيعة، والتي يرفض الاعتراف بها في عقله وسلوكه. والشكوى منه في انه ليس وزير السنة، اي ليس وزير المساجين المعذبين، ليس فقط بمعنى مسؤوليته عن حقوقهم، وهو مسؤول وحبة مسك، بل بمعنى أنه ليس وزير «قضيتهم«، بوصفهم يجسدون حجم الاعتداء على السنة في لبنان، او هكذا يريد السعار المذهبي لهم ان يكونوا.
المأخذ على نهاد المشنوق أنه وزير محترم، لا يزال يراهن على الحتمية التاريخية لانتصار مشروع رفيق الحريري بانتصار فكرة الدولة عند الناس اولاً، في الوقت الذي تعاني فيه طائفته من فوائض الجنون والمجانين المنتقل اليها من جنون ومجانين خصومها. وهذا يفتح أمامي ملاحظتين.
الملاحظة الاولى أن الجهة التي سربت الشريط ورعت انتشاره لا تزال تقيم على ما أسميه «استراتيجية تجنين السنة« ودفعهم الى خانة التطرف، وتحويل اغلبيتهم الى بيئة حاضنة وشعبية للمشروع الاقصى بينهم. هذا «الحلم« عبرت عنه اليوم مادة اعلامية بالقول ان «الشارع للنصرة وداعش«!!! تخيلوا. الشارع! «حتة واحدة«.
كان هذا هو اساس الاستراتيجية ويبقى، وما الاضاءة عليه ونفخه في الاعلام الا اتساق مع النفس ومع المشروع الدافع بالسنة في هذا الاتجاه. هذه الاستراتيجية تقوم على «بهدلة« مشروع الاعتدال وفكرته وناسه وممثليه بدءاً من زعامة سعد الحريري مروراً بالوزير المشنوق ووصولا الى الجمهور السني الذي يراد لبعضه ان يخرج الى الشارع برايات التطرف والجنون، ثم يقال ان هذا البعض هو كل السنة في لبنان. وهو شارع السنة في لبنان.
وربما يكون هذا التجنين هو مقدمة لتبرير اي خطوات انقلابية في المستقبل القريب اذا ما مالت الدفة السورية بغير الاتجاهات التي يراهن عليها محور المقاومة. فيكون الانقلاب إذذاك ليس انقلابا على مكونات المشروعية السياسية لتيار المستقبل بل على مجانين الطائفة وارهابييها، الذين بحسب تلك المادة الاعلامية المشؤومة، بات الشارع لهم.
اما الملاحظة الثانية، فهي ان مبالغة آذار، في احتضان ومديح «عقلانية واعتدال« الوزير المشنوق، لا سيما ممن لا يربطهم بالعقلانية والاعتدال الا اللغو الخطابي والاكثار من استخدام المفردات باعتبارها بديلا عن الوقائع، فهو يصب في السياق نفسه لضرب مشروعية الاعتدال وتعريته من الحاضنات الشعبية له.
لا شك ان هذه المبالغة أساءت للوزير المشنوق عند جمهوره، وادخلت الشك فيه الى قلوب بعضهم، وانتقصت من جدية تمثيله لقضاياهم، على اعتبار ان حماية هذه القضايا لا تقاس الا وفق معادلة صفرية: ما يرضي اخصامنا سيئ لنا وما يستفزهم جيد لنا. فكيف اذا كانت قوى محور المقاومة توحي بأن المشنوق وزيرها بمقدار ما هو وزير المستقبل.
يعلم هؤلاء ان شخصية وسمعة وتكوين ومواقف الوزير المشنوق محرجة لمن يريد ان يختصر السنة بداعش والنصرة وانه يملك من السياسة والحكمة ما يعطل لديهم آلات التعبئة لشيطنة الآخر، بوصفه ممثلا أمينا للمعنى الحقيقي لزعامة سعد الحريري اللبنانية المعتدلة المنفتحة.
من سيقتنع ان نهاد المشنوق أمير محور، في الوقت الذي يراد تصوير السنة بوصفهم طائفة من أمراء المحاور. من سيقتنع ان نهاد المشنوق داعشي وتكفيري في وقت يراد تصوير السنة بانهم طائفة من الداعشيين والتكفيريين. من سيقتنع بأن نهاد المشنوق ممثل لمشروع إفناء الشيعة وتهجيرهم، في الوقت الذي يراد تصوير السنة بأنهم طائفة من وحوش التهجير فقط. من سيقتنع بأن نهاد المشنوق رأس حربة إفناء للأقليات ووجودها في الوقت الذي يراد للسنة ان يكونوا طائفة من كارهي الاقليات والعاملين على إفنائها.
لكل ذلك المطلوب احراق نهاد المشنوق، باحتضان مزيف له ومديح خبيث لادائه، ورعاية كل ما من شأنه الطعن في صحة تمثيله «لقضايا« طائفته.
المجانين يريدون مجانين يقابلونهم. وتهمة نهاد المشنوق ان عقله يسبق غريزته.
(عن جريدة المدن الإلكترونية)