«حقّن يرجعوا»، تقول الحملة المطالبة بعودة اللبنانيين الفارّين إلى فلسطين المحتلة، منذ تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000. كان مشهد طوابير السيارات المصطفة أمام بوابة فاطمة واحداً من مشاهد الذل الذي لحق بالعصابات المتعاملة مع العدو عقب انهزامها مع مشغّليها. وبين أفراد تلك العصابات، كان لبنانيون لم يتعاملوا مع الاحتلال، لكنهم، في غالبيتهم، أفراد من عائلات أعضاء تلك العصابات الإجرامية. عصابات كانت تقتل الجنوبيين، وتسجنهم، وتعذّبهم في المعتقلات، وتقصف المدن والقرى بالمدفعية، لكن يجري اليوم تصويرهم كضحايا لحملة تخويف وقهر أدت إلى «إبعادهم» إلى «الأراضي المقدسة»!
في مقابل مشهد الذل ذاك، كان باقي أفراد العصابات يسلّمون أنفسهم إلى الجيش والمقاومة. عوملوا برحمة فائقة. لم يُنكّل بأحد منهم. لم يُظلم أحدهم في الحكم الصادر بحقه. على العكس من ذلك، كانت الأحكام التافهة التي أصدرتها المحكمة العسكرية الدائمة حينذاك، بقرار سياسي، ظالمة بحق اللبنانيين الذين ذاقوا الأمرّين على أيدي تلك العصابات.
الفارون إلى فلسطين المحتلة ليسوا فئة واحدة. هم العملاء أفراد عصابات أنطوان لحد، وعائلاتهم. وهم متنوعون طائفياً، تبعاً للتنوع القائم في الشريط الحدودي. الحملة المطالبة بعودتهم اليوم، تزخر بالأكاذيب المضللة:
أولاً، هي تمنح هذه «القضية» بعداً طائفياً، مصوّرة الفارين بأنهم مسيحيون حصراً. لا يتلفظ القيّمون على الحملة بالعبارة السابقة، لكنهم يوحون بها. لكن كل المتابعين لملفات عصابات عملاء العدو، يُدركون أنه لا يمكن القول بأن غالبية الذين تعاملوا مع العدو في الجنوب كانوا من المسيحيين.
ثانياً، تصوّر الحملة الفارين إلى فلسطين المحتلة بأنهم أبعِدوا قسراً، فيما هم فرّوا بإرادتهم. «زملاء» لهم قرروا قبل التحرير، الفرار إلى المناطق المحررة، وأكثر من نصف العملاء سلّموا أنفسهم إلى الجيش والمقاومة عقب التحرير. تأتي هنا مباشرة ذريعة «التخويف»، وخاصة لجهة العمليات التي نفّذتها المقاومة ضد العصابات المسلحة لعملاء جيش الاحتلال في الأشهر التي سبقت التحرير في أيار 2000، كما لجهة الخطابات التهديدية التي وجّهتها قيادة المقاومة لهم في تلك الفترة. حينذاك كان العدو يراهن على ترك عصابات عملائه خلفه بعد الانسحاب، ليفتح باباً جديداً من أبواب ما يمكنه تصويره «حرباً أهلية في لبنان لا صلة لنا بها». وبناءً على ذلك، قررت قيادة المقاومة تصعيد عملياتها ومواقفها ضد ميليشيات العملاء، لمنع العدو من تحقيق مآربه. ولم تكن تلك العمليات والمواقف موجهة أبداً إلى المدنيين، ولا إلى عائلات العملاء. وفي لحظة التحرير، كان نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم يجول في قرى مرجعيون (ذات الغالبية المسيحية)، لتطمين المواطنين إلى أن أحداً لن يتعرّض لهم بسوء. وفي الموازاة، كانت مجموعات من المقاومين، من حزب الله وحركة أمل والحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي، تطمئن الأهالي إلى مصيرهم ومصير أبنائهم. لم يُقتل عميل ولا فرد من عائلاتهم. لم يتعرّض أحد لهم بسوء. حتى الذين اعتقلتهم المقاومة، صدرت أوامر القيادة بأن لا يتعرّضوا لأي تنكيل خلال التحقيق معهم، قبل تسليمهم إلى الجيش. ثم أتى خطاب قائد المقاومة، السيد حسن نصر الله، في اليوم التالي، من بنت جبيل، ليضفي المزيد من عوامل الاطمئنان على أهل «الشريط». ثمة أداء سياسي وخطابي في الجنوب، على مدى 19 عاماً، أزال ذريعة الخوف التي يُراد اليوم تسويقها (الرأفة التي تعاملت بها المقاومة مع العملاء هي واحدة من القضايا التي تُثار، من حين لآخر، في وجه قيادة التحرير من قبل ضحايا العملاء)، وتُوِّجت بورقة التفاهم بين حزب الله والتيار الوطني الحر.
ثالثاً، يجري تصوير الفارين إلى فلسطين المحتلة كممنوعين من العودة. هذا كذب أيضاً. وقائع السنوات الـ 19 الماضية تثبت أن عشرات العملاء، وعائلاتهم، عادوا من فلسطين المحتلة. ثمة رجال دين يزورون الفارين في فلسطين، ويتواصلون مع السلطات اللبنانية، لتأمين ظروف العودة لمن يشاء. وتتولى منظمات دولية تنفيذ عملية العبور من فلسطين إلى لبنان. ولم يتعرّض أحد من العائدين لأي سوء. يخضعون لتحقيق سريع من قبل استخبارات الجيش (وهو أضعف الإيمان لأشخاص عاشوا سنين طويلة تحت سلطة العدو)، ويُحاكَم بعضهم محاكمة صورية، ليُفرج عنهم في اليوم نفسه الذي يُحالون فيه على المحكمة. آخر أبرز العائدين كان الياس هاشم، ابن العميل عقل هاشم الذي أعدمته المقاومة قبل أشهر من التحرير. وهاشم هذا كان يحمل الجنسية الإسرائيلية. قضى جزءاً كبيراً من حياته في كنف العدو، داخل فلسطين. درس في الجامعات الإسرائيلية، وعمل هناك، قبل أن ينتقل للعيش في ألمانيا. أراد العودة، فتم تأمين اتصال بينه وبين فريق رئاسة الجمهورية في لبنان، فعاد إلى بيروت عام 2017. نُقِل إلى المحكمة العسكرية، وصدر حكم بسجنه عاماً واحداً مع وقف التنفيذ. محاكمة صورية إلى درجة أن النيابة العامة اعتبرته «غير مسؤول عما مضى». وقبل عودته بأربع سنوات، كانت والدته قد رجعت إلى لبنان مع شقيقته وشقيقه. خرج هاشم من المحكمة، حرّاً، في اليوم نفسه لوصوله! في مقابل هكذا أداء من الدولة، تُرفَع ذريعة التخويف لتبرير عدم العودة!
رابعاً، يجري تصوير الفارين كما لو أنهم جميعاً أبرياء. صحيح أن بينهم من وُلِد هناك، وبعضهم لم يذهب بإرادته، بل كان طفلاً اصطحبته عائلته. لكن عملاء كثراً لا يزالون حتى اليوم يمارسون خيانتهم. بعضهم تطوّع في صفوف العدو، وبعضهم الآخر يستكمل عمله المعتاد مع أجهزة الاستخبارات المعادية (الاستخبارات العسكرية، «آمان»، خصوصاً) لتجنيد أشخاص في لبنان واختراق المجتمع اللبناني ومؤسسات الدولة وجمع المعلومات لحساب العدو، وربما، تنفيذ عمليات في الأراضي اللبنانية. حملة التحريض المسماة «حقّن يرجعوا» تطالب بالعفو عن هؤلاء أيضاَ.
«حقّن يرجعوا». بلى. وحقّنا كذلك. حقنا باستعادة أبنائنا الذين لا نزال نصرّ على ضرورة عدم تحويلهم إلى جزء من مجتمع العدو وآلة قتله وأجهزته الجاسوسية الإرهابية. وحقنا بأن تتولى الدولة هذا الملف، بعيداً عن الضغط، فتفصل بين العميل الخائن ــــ الذي من حقّنا عليها، نحن اللبنانيين، ضحايا عصابات العملاء ــــ أن تحاسبه وتنزل به أقسى العقوبات، وبين الذي أُجبِر على الذهاب لأنه كان قاصراً مسلوب الإرادة، وهو اليوم رهينة علينا العمل على تحريره.