تستمرّ المحاولات العقيمة في محاولة إنتاج موازنة مُنتجة تنقل البلاد من المراوحة والتشنّج الاقتصادي الى الإنتاجية الحقيقيّة، والأهمّ تخفيف الهدر الهائل وإيجاد موارد بديلة من دون فرض ضرائب تُصيب المواطن والمنتجين في البلاد.
والملاحظ أنّ التغييرات ليست جذرية حتى اليوم في إعادة إنتاج موازنة، حيث أنّ جُلَّ ما يجري هو محاولة ترقيع أو عملية تجميل لنظام فشل في خلق اقتصاد منتج ودائماً في جوٍّ من الاستعجال و«قلّة الخصيّة» الممزوجة بعقمٍ اقتصادي.
قد يكون الاعتراف بالخطأ المرتكب على مرّ السنين هو المدخل الرئيسي لإعادة إنتاج موازنة، والموازنة في عُرف كل الدول لا تعني ممارسة دور الجابي و«المحاسبجي» الضيّق، الموازنة تعني أولاً أن نكلّف ضرائب تهدف الى التطوير الاقتصادي والاجتماعي، وأن نوسّع مجالات الاستثمار ونُزيل كلّ العوائق التي تحول دون تحويل لبنان الى ساحة استثمارية تُطوّر الإنتاجية في القطاعات كافة، وفي القطاعات التي نملك فيها مزايا تفاضلية وتنافسية من الصناعة، السياحة، الصحة، الخدمات المصرفية والتعليم الخ… والتي تخلق فرصَ عمل (منتجة) لآلاف المتخرّجين الذين نرتضي أن يهاجروا.
وأكثر ما يُثير القلق هو لماذا هذا العزوف عن تغيير العقلية، فيما الحلول موجودة وهي أمام نظرنا، «إيه في حلّ» هذا ما ثابرتُ على ترداده على مدى سنوات، في كل مرّة تُطرح الموازنة للمناقشة، أتقّدم باقتراحات أساسية لإعادة الإنتاجية.
قدّمت الاقتراحات عندما كنتُ رئيساً لجمعية الصناعيّين، وحين كنتُ وزيراً في الحكومة، وحين خرجتُ من الحكومة، ولا أفوّت فرصةً لإعادة التذكير باقتراحات أحملها أينما حلَلت، لا أدّعي أنّ هذه الاقتراحات تحمل كل الحلول ولكنها على الأقلّ تُشكّل مدخلاً للنقاش الاقتصادي الجدّي، وهو نقاش في رأيي لم ينطلق بعد، ففي حين تنحصر النقاشات في كيفية تأمين مبلغ من هنا وتقليص مبلغ من هناك، لم نوسّع النقاش ليطاولَ نقطة أساسية: «كيف نُوسّع حجمَ الاقتصاد؟».
فلم نفتح النقاش بعد عن فعالية الضريبة على القيمة المضافة في ظلّ فاتورة استيراد مزوّرة، وهل الزيادة في هذا المجال أدّت النتيجة المطلوبة؟ أوَليس ضبطُ التهرّب أهمّ هنا من رفع نسبة الـTVA؟ لم نفتح النقاش بعد حول أهميّة التخمين العقاري المركزي مثلاً، وهل هو خطوة نافعة لحصر الهدر الحاصل في لجان التخمين، لم نتطرّق في نقاشنا الى وضع مرفأ بيروت وكيف نقبل أن تبقى مداخيلُه خارج خزينة الدولة، كيف لا نفتح نقاشاً حول عدم تطبيق قانونَي السير والتدخين لضمان مداخيل إضافية وتأمين سلامة المواطن؟
لماذا نُصرّ على غضّ النظر عن العديد من النشاطات التي تستعمل البحر، والبرّ والجبال والهواء والأملاك العامة من دون أن تدفع مقابلاً، ما حصّة الدولة من مواقف اليخوت في الكسليك والسان جورج؟ في حين نستميت في فرض ضرائب على المنتجين الذين يخلقون فرص عمل، والأمثلة هنا كثيرة من الكسارات والمقالع والأملاك البحرية، الإعلانات، الألعاب الإكترونية، تجارة الأسلحة، كلّها نشاطات تتمّ في الظلمة يستفيد أصحابها من دون دفع أيّ ضريبة تُذكر.
هل فتحنا نقاشاً جدّياً حول جدوى الاحتكار حتى الآن في اقتصادنا الوطني؟ هل درسنا الآثار المترتّبة عنه والى ماذا أدّى؟ هل نشرنا توعية حقيقية حول هذا الخطر والمرض الذي يضرب اقتصادَنا الوطني، من الاتصالات، التبغ والتنباك، الترابة، المطار والطيران، وصولاً الى الميكانيك مروراً بالكهرباء، النفايات والمياه وغيرها؟
لوحات أرقام سيارات جديدة، أنا الصناعي أقول كلفة اللوحة الواحدة يجب ألّا تتعدّى 5 دولارات، لماذا هذا الاحتكار الجديد؟ الجميع يُنادي بلامركزية النفايات مثلاً والوزارة الى يومنا هذا لم تنشر المواصفات المقبولة بالنسبة إلى التفكّك الحراري أو المطامر؟
لماذا لم نفتح النقاش على العلن حول نفقات الدولة؟ أولاً أخفينا قانون الحق في الوصول الى المعلومات، ولم نُصدر مراسيمه التنفيذية لتصبح كل النفقات علنيّة، ألا نتجرّأ على ذلك؟ هل نعرف ضمناً أنّ هذه النفقات وجدواها الاقتصادية ستُصبح مثار بحثٍ حقيقي، من دعم جمعيات غير فاعلة، وصناديق غير فاعلة ومجالس غير فاعلة، من توظيف مُبالغ فيه فيما يغيب التوزيع الحقيقي للمهام، توظيف سياسي انتخابي، من دون درس الفعالية المقدَّمة للدولة في مقابلها.
آلاف المرافقين للشخصيات، أساتذة رسميّون لا يؤمّنون دواماً حتى أصبحت النسبة استاذاً لكل 7 تلاميذ في القطاع الرسمي وهي النسبة الأعلى عالمياً، معاشات عالية لموظفي الضمان مقابل إنتاجية متدنّية وإذلال للمواطنين في طوابير الصندوق! الى متى نؤجّل النقاش في كل هذا. وللمعلومات ما زلنا نوظف!
آخرهم 200 موظف في وزارة الثقافة! أمّا التوظيفات في القوى الأمنيّة فحدِّث ولا حرج! الى يومنا هذا لا أحد يستطيع إعطاء فكرة عن المعاشات التقاعدية سنة 2020، 2030، 2040 الخ. أنا في رأيي ستتضاعف كل سبع سنوات!
لم نتكبّد عناء حتى التفكير في انخفاض الصادرات، وهو مؤشّر لو حصل في أيّ بلد لأدّى الى ثورة شعبية، فانخفاض مليارَي دولار في الصادرات على مدى السنوات الماضية لم يُحرّك ساكناً، في حين كلمة «بلطجة» كانت ستؤدّي بالبلد الى الضياع.
تبنّي كل الدول اقتصاداتها وتحالفاتها في سبيل هدف واحد، وهو زيادة النموّ وبالتالي التصدير، فهو مؤشر قوة البلد منذ أيام الفينيقيين وحتى اليوم، أمّا في بلدنا فلا يستحق هذا الموضوع حتى النقاش، حتى لا أقول الحلول، فالتصدير هو مقاومة، في بلد كان قدره أن يُعزَل ليتمّ تركيعُه، من غير المقبول أن يبقى المصدر يتحمّل كل هذه الابتزازات والسمسرات، يجب أنّ يتحوّل هذا الموضوع الى همٍّ أساسي، ويُصار الى ترشيق الإجراءات وشباك موحَّد وإزالة ضريبة الدخل والرسوم عن التصدير، كما وفتح مرفأ بيروت ستة أيام في الاسبوع، 12 ساعة يومياً في انتظار تأمين الإمكانات لفتحه 24/24 دعماً للتصدير والاستيراد على السواء.
وهذه نقطة أساسية مهمة جداً لتنافسيّة الاقتصاد. وستنخفض حتماً أكلاف التخليص. كذلك يجب ألّا تتعدّى الكلفة الداخلية عند التصدير على كلّ مستوعب 20 قدماً الـ200 دولار اميركي، و250 دولاراً أميركيّاً على الـ40 قدماً من ضمنها الـ FIO.
أتوجّه الى فخامة الرئيس ميشال عون بصرخة ليُصبح الراعي الرسمي لهذا النقاش، فكما وضع الجميع أمام مسؤولياتهم في موضوع الكهرباء يستطيع أن يسأل ويُحاسب ويعرّي الجميع في كل النقاط التي حلمنا دائماً في رؤيتها تتحقّق، وعهد الرئيس القوي هو الفرصة التي يستحقّها اللبنانيون للانتقال الى الاقتصاد القوي.