لا نصدّق أن ثمة من يتجرّأ على تحويل دماء الشهداء الأبرار، التي روت أرض الوطن، إلى زيت أسود لتسعير نيران الخلافات والفتن، والتهام كل ما تحقق من التحام بين الشعب والجيش والدولة.
لا نصدّق أن ثمة مَن لا يتردد في تفريغ الانتصار الكبير للجيش ضد الفلول الإرهابية، من أي مضمون وطني، والعمل على محاصرة فرحة النصر بزنار من حملات التشكيك والتضليل.
بل لا نصدق أن ثمة من لا يخشى نكء الجراح، والمزايدة بأرواح الشهداء، واستغلال مشاعر العائلات المكلومة، في لعبة تصفية حسابات رخيصة، تشوّه تضحيات الأبطال، ودفاعهم الباسل عن كرامة كل لبناني، وعن أمن واستقرار الوطن كلّه.
مطالبة رئيس الجمهورية بفتح تحقيق لكشف الملابسات المحيطة باختطاف العسكريين، الشهداء منهم والأحياء، والظروف التي أحاطت بنقلهم إلى الجرود، ثم العقبات التي اعترضت محاولات التفاوض لاستعادتهم أحياء إلى المؤسسة العسكرية، هي مطلب حق وقانوني، ولكن ثمة مَن يعمل على توظيفه لأهداف باطلة، ولغرضيات فئوية ضيّقة!
اللبنانيون، كل اللبنانيين، مع مبدأ فتح التحقيق، شرط أن تتوافر له القواعد الموضوعية والقانونية السليمة، بعيداً عن الحملات الممنهجة، لتغطية «السماوات بالقبوات»، بحيث يتم توجيه السهام إلى الأطراف البريئة، ويكون الهدف الحقيقي هو صرف النظر عن أخطاء وارتكابات أطراف أخرى، مثيرة للجدل، ولكل هذا السجال السياسي.
لم تقبل الأكثرية الساحقة من اللبنانيين الحملة الصادمة ضد مسؤولين سياسيين وعسكريين، وخاصة الرئيس تمّام سلام والعماد جان قهوجي، ومحاولة تحميلهما مسؤولية التفريط بمصير العسكريين، في وقت تُطرح فيه أكثر من علامة استفهام حول المفاوضات التي أجراها «حزب الله» مع «داعش»، وانتهت بخروج الدواعش مع عائلاتهم إلى دير الزور، بحماية الجيش السوري وحلفائه!
ليس سراً أن توقف المفاوضات مع داعش بعد الأسابيع الأولى لعملية الاختطاف، سببه معارضة «حزب الله» وحلفائه في الحكومة السابقة، إجراء أية مفاوضات، أو إطلاق أي عنصر من سجن رومية من العناصر التي طالب بها الدواعش، مقابل إطلاق سراح العسكريين فوراً.
وما زال اللبنانيون يذكرون كيف ضغطت قيادة «داعش» في الجرود على أهالي العسكريين، ودفعتهم للنزول إلى الشارع وقطع الطرقات في بيروت ومناطق أخرى للضغط على الحكومة بعد تعثر المفاوضات بسبب معارضة «حزب الله»، بحجة عدم تقديم أي تنازل للإرهابيين.
ومعروف أن رئيس الحكومة وقتذاك، كان يدير الأوضاع في فترة الشغور الرئاسي في ظروف بالغة التعقيد، ليس أقلها اشتراط توافر الإجماع الوزاري على القرارات المهمة! وهنا تكمن أهمية مطالبة الرئيس تمّام سلام بالكشف عن محاضر جلسات مجلس الوزراء في موضوع عرسال والعسكريين، لإظهار الحقائق أمام اللبنانيين، والاطلاع على حقيقة مواقف الأطراف السياسية المشاركة في الحكومة السابقة، وخاصة تلك الأطراف التي تروّج لحملات التشكيك والتضليل!
التحقيق الشفاف والمهني والحيادي سيضع الأمور في نصابها الصحيح، ويحدد ما إذا كان الجيش جاهزاً في معركة عرسال لمتابعة القتال مع مسلحي داعش والنصرة، وتأمين إطلاق العسكريين سالمين، أم أن المسألة عكس ذلك تماماً، حيث فرض الإرهابيون المعركة، توقيتاً ومسرحاً، على الجيش، الذي تكبّد خسائر كبيرة، دلت على عدم جهوزية القوة العسكرية المتواجدة على أرض المعركة، والتي كانت مكلفة بمهمات أمنية روتينية في عرسال.
فهل كان المطلوب تعريض الجيش لمزيد من الخسائر، والمغامرة بعرسال وأهلها في معركة غير مضمونة النتائج؟
وماذا كان سيضمن مصير العسكريين والمخطوفين وسلامتهم، في حال تمكن الجيش من طرد المسلحين من البلدة؟
أسئلة، وغيرها كثير من التساؤلات، لا بدّ أن يقوم التحقيق المنتظر بجلاء غموضها.
ولكن يبقى من المعيب استغلال دماء الشهداء، لتوجيه الاتهامات الظالمة لرجل حافظ على الأمانة الدستورية، وحمى الجمهورية من السقوط ، وتحمّل من أثقال وافتراءات بعض الأطراف السياسية ما تنوء به الجبال!