IMLebanon

نعم للدولة المدنية… لكن كيف ومتى؟

 

يُجمع دعاة الإصلاح والحداثة منذ زمن المعلم بطرس البستاني على أنّ طريق بناء الدولة التي تحقق الرقي والتمدن وتضمن تطبيق القانون، وتوفّر لمواطنيها الشعور بالمشاركة وعدم التمييز، هي الدولة المدنية التي لا تمر علاقة المواطن بها بأي وسيط معنوي أو مادي، يعرّف الدولة الى المواطن ويطلب له الحقوق، التي يجب أن تتوافر بصورة تلقائية، أو يطالبه بأداء الواجبات التي يجب أن يؤديها طوعاً بمحبة وفرح، لأنّ الدولة دولته ونموّها وازدهارها وقوتها سيعودون عليه بالخير حُكماً.

 

تحقيق المفهوم الاكمل للدولة المدنية يعني تحرير تنظيم الدولة من التنظيم الطائفي بصورة كاملة وشاملة، وتحرير تنظيم الأحوال الشخصية من كل تدخّل للمؤسسات غير الحكومية، وهي هنا المؤسسات الدينية، وهذان تَطلّعان يبدوان غير مناسبين للبنان، أو غير ناضجين لظروفه على الأقل، وليس في التطلب الكامل والمطلق لهما تعبير عن حاجة لبنانية ملحة، والشمولية المطلقة لمفهوم المدنية في التنظيم السياسي والإداري للدولة كما للأحوال الشخصية قد تكون قفزة في المجهول أو خسارة لميزات وإيجابيات، ليس التمسّك بتحقيقها سوى تعبير عن تشدد فكري من باب التطرف العقائدي.

 

يرغب اللبنانيون عامة بالحفاظ على ميزة لبنان كبلد للتنوع الديني، يُباهي بين دول العرب والمسلمين بأنه واحد منهم لكنه الوحيد الذي يقف على رأس الدولة فيه مسيحي، ويباهي العرب والمسلمون بهذه الميزة لبلد من بلدانهم في تقديم عروبتهم وإسلامهم، وليس من المبالغة القول انّ هذه الميزة قوة للبنان وللعرب والمسلمين في المجتمع الدولي وفي الدفاع عن قضاياهم، وتعبير أصيل عن قضية لا تشكّل ترفاً، بل تقع في صلب الأولويات، وهي قضية حماية الوجود المسيحي في الشرق، كعنوان يقدّم لبنان منصّة التشجيع الأهم لثباته بهذا الحضور المسيحي المتميّز فيه، وكذلك فإنّ لبنان المؤمن بأنه قادر على لعب دور مختبر الحوار بين الحضارات والثقافات مستقوياً بالتعدد الديني فيه، يمنحه المصداقية تظهير هذا التنوع على مستوى تركيبته الرسمية والمؤسساتية، بصورة تمنح المشروعية للدور، والبقاء والثبات للتنوّع.

 

التوازن بين الحاجة لدولة تتحرر من التنظيم الطائفي حتى تصير دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة، ويترجم ذلك في كل مناحي علاقتها بمواطنيها من جهة، وبين الحاجة للبنان الرسالة بالنسبة لمسيحيي الشرق ولقضايا العرب والمسلمين وللحوار المُستند إلى خصوصية التوازن في التنوع الديني لتركيبته، من جهة مقابلة، يستدعي حواراً هادئاً وعقلانياً، لإنتاج الصيغة التي تلبّي تحقيق الهدفين، لبنان الدولة ولبنان الرسالة.

 

المسيحيون في لبنان بصورة خاصة يضيفون لهذه المعطيات، ومعهم طوائف تشعر بكونها أقليات وتخشى لعبة العدد، أنهم في عالم إسلامي واسع، يتمسّكون بالحفاظ على قدر من التنظيم الطائفي لا يضرّ بفكرة الدولة المدنية لكنه يحقق لهم الإطمئنان والشعور بثقة تجاه الغد، في ظل تغييرات وموجات فكرية تهبّ في العالم الإسلامي قد تجعل من الإلغاء الكامل للتنظيم الطائفي للدولة بوّابة لسقوط التنوع وضماناته.

 

بالتوازي، يجمع كثير من المؤمنين من مختلف الأديان على التمسك بالزواج الديني، وتنظيم الأحوال الشخصية على أساس مرجعية الدين في حياتهم. ولذلك، نحتاج حواراً موازياً على أساس المصلحة والتوفيق بين المقتضيات القانونية الملحّة، وبين التمسّك بالدين كحق كفله الدستور للبنانيين، ضمن حق المعتقد، وشكّل ركناً من أركان تأسيس لبنان، والحوار طريقنا لنكتشف الحدود التي يمكن عبرها إدخال المدنية على الأحوال الشخصية من دون الإخلال بحق حرية المعتقد أو حق تنظيم الحياة الإجتماعية على أساس الإيمان الديني.

 

نحو الدولة المدنية هو الحوار الذي نرغب بإطلاقه من هذه الزوايا وبهذه المعايير، لتشترك فيه كل القوى السياسية والطاقات الثقافية والفكرية، تحت عنوان «سنة المعلّم بطرس البستاني نحو الدولة المدنية».