IMLebanon

بالأمس «الفوضى».. واليوم «الانتحار»..؟

هل يقترب لبنان من حالة الفوضى والانهيار التي عاشها عامي 1989 و1990، قبل التوصّل إلى اتفاق الطائف؟

السؤال يتبادر إلى أذهان بعض من عايشوا تلك المرحلة الصعبة، والأسباب التي أدّت إلى تفجّر أحداثها الدامية والمدمرة، وفي مقدمة تلك الأسباب: المزايدات المفرطة بين القيادات المسيحية، وصراعاتها المعهودة في سباقها الرئاسي إلى قصر بعبدا.

بعد أشهر قليلة على الشغور الرئاسي خريف عام 1988، ومغادرة الرئيس أمين الجميل قصر بعبدا، بعدما سلّم قائد الجيش العماد ميشال عون السلطة، عبر مراسيم حكومة عسكرية، جاء مساعد وزير الخارجية الأميركية يومذاك ريتشارد مورفي إلى لبنان وسوريا، موفداً من البيت الأبيض، لترتيب عملية انتخاب رئيس للبنان، بالتنسيق والتعاون مع دمشق، وكان أن توافق مع الرئيس السوري حافظ الأسد على شخص النائب مخايل الضاهر كمرشح وحيد في الانتخابات الرئاسية.

وعرّج مورفي إلى لبنان، في طريق عودته من دمشق إلى واشنطن، ليُبلغ القيادات اللبنانية، وخاصة المسيحية، بما تمّ الاتفاق عليه في دمشق، فكان أن اصطدم بمعارضة مسيحية قوية ضد اختيار الضاهر رئيساً للجمهورية، وعندها قال كلمته المشهورة للبطريرك صفير، وبحضور عدد من الشخصيات المسيحية: إما الضاهر أو الفوضى!

ولأن القيادات المسيحية بقيت أسيرة مواقفها، وطبعاً خلافاتها التقليدية، ورفضت الإنذار الأميركي، فقد غرق لبنان في دوّامة من الفوضى والعنف غير مسبوقين، طوال السنوات السوداء، تفجرت خلالها حربا التحرير والإلغاء، وأصابت المناطق المسيحية بقدر كبير من الخراب والدمار، أدى إلى موجة واسعة من الهجرة المسيحية إلى أوروبا، وخاصة فرنسا!

ولم تنته دوّامة العنف الأعمى إلا بعد التوصّل إلى اتفاق الطائف، ومبادرة بكركي والقوات والكتائب إلى الموافقة عليه، رغم معارضة العماد عون، وتهديداته ضد النواب والقيادات التي وافقت على الطائف، والتي وصلت إلى حدّ نسف بيوت عدد من النواب المسيحيين، فضلاً عن التعرّض للبطريرك صفير شخصياً في تلك التظاهرة العونية المعيبة في باحة بكركي!

* * *

مشاهد تلك المرحلة السوداء لا يعرفها شباب اليوم، الذين ولدوا في التسعينات، ولا يُدركون أنها كانت في أساس التداعيات السلبية، التي أدت إلى إضعاف الدور المسيحي في المعادلة الوطنية، وإشاعة مشاعر الإحباط والضياع في المناطق المسيحية، والتي ما زالت بعض مضاعفاتها مستمرة حتى اليوم، وبعد مرور ربع قرن ونيّف، على اختيار القيادات المسيحية «الفوضى»!

المفارقة المحزنة فعلاً، أن مواقف بعض القيادات المسيحية المؤثرة، من القضايا السياسية الأساسية، وفي مقدمتها تعطيل جلسات مجلس الوزراء، ومعارضة «تشريع الضرورة» في مجلس النواب، تُقارب بعض خلفيات مرحلة أواخر الثمانينات، ونتائجها المدمرة، لا سيما على صعيد انهيار ما تبقى من سمعة ومصداقية دولية للدولة اللبنانية، فضلاً عن القضاء كلياً على المؤسسات الدستورية، وتحوّل لبنان إلى دولة فاشلة، مطابقة لكل مواصفات الفشل والعجز والشلل!

ورغم كل ذلك، نحرص على أن النقاش في هذا الموضوع وطني، لا طائفي، خاصة وأن ثمة حضوراً مسيحياً فاعلاً في تأييد ودعم تفعيل عمل المؤسسات الدستورية، وخاصة مجلس النواب ومجلس الوزراء.

وإذا دخلنا في تفاصيل المواقف المطروحة، يبرز الكثير من التباين بين الأفرقاء المسيحيين أنفسهم، بالنسبة للملفات المطروحة في مجلس النواب، كما في مجلس الوزراء، وذلك رغم كل ما يظهر من تقارب وتنسيق بين القوات والتيار العوني، أو بين الأخير وحزب الكتائب، أو حتى بين الثلاثة مجتمعين!

1 – تشترط الرابية ومعراب إدراج قانون الانتخاب كبند أول في الجلسة التشريعية، ولكن مِن حق الرئيس نبيه برّي أن يسال: أي مشروع يريدون إدراجه، المشروع الأرثوذكسي الذي تراجعت «القوات» عن تأييده، والذي تعارضه الأطراف الإسلامية بشدّة! أم المطلوب إدراج مشروع القانون المختلط الذي يجمع بين النسبية في بعض الدوائر، والأكثرية في دوائر أخرى، وتقسيمات دوائره بين صغيرة ومتوسطة، والذي يعارضه التيار العوني بشدة؟!

2 – تطالب القوات والتيار الوطني الحر بإدراج قانون استعادة الجنسية للمغتربين على جدول أعمال الجلسة النيابية، واعتباره من صنف «تشريع الضرورة»، متجاهلين بذلك بأن بعض بنود هذا المشروع ما زالت خاضعة للأخذ والردّ، خاصة في ظل تصاعد مطالبة هيئات المجتمع المدني بإقرار حق الأم بإعطاء جنسيتها لأولادها، ومساواتها بذلك للرجل، على غرار ما هو حاصل في المجتمعات المتحضرة! أي أن مشروع قانون استعادة الجنسية، لم يبلغ مرحلة التوافق بعد، حتى يتم طرحه بهذه العجالة، من دون توفّر أي ضمانة لإقراره، وعدم إعادته للجان المشتركة!

3 – يطالب حزب الكتائب بإعطاء الأولوية المطلقة لانتخاب رئيس للجمهورية، وعدم جواز أي تشريع في مجلس النواب قبل انتخاب الرئيس، عملاً بنص الدستور والنظام الداخلي للمجلس، الذي يُفترض بأنه تحوّل إلى هيئة ناخبة بمجرد حصول الشغور الرئاسي!

ولكن رئيس حزب الكتائب يُدرك شخصياً، وأكثر من غيره، استحالة عقد جلسة لانتخاب الرئيس العتيد، في ظل المقاطعة المتعمدة للتيار العوني، وحليفه حزب الله لجلسات انتخاب الرئيس، وتطيير النصاب المستمر منذ ثمانية عشر شهراً تقريباً!

والرئيس الشاب لحزب الكتائب يعلم أيضاً، أن المؤثرات الخارجية، من إقليمية ودولية، تُعرّقل، بل تحول دون انتخاب رئيس للبنان في هذه المرحلة، طالما بقي فريق من القوى السياسية يرفض الرئيس التوافقي، ويحاول إيصال مرشحه إلى قصر بعبدا!

* * *

هذه القراءة الموضوعية للواقع السياسي الحالي، تقودنا إلى التساؤل بشكل بسيط وصريح:

على ماذا يُراهن بعض القادة المسيحيين على غير الانهيار والفوضى؟

ولعل السؤال الأكثر إلحاحاً:

هل تعتقد القيادات المسيحية المعارضة للتشريع أن إقرار القوانين والاتفاقات المتعلقة بتبييض الأموال وتهريب الثروات وإنقاذ القطاع المصرفي من حصار دولي محتّم، يخدم الحلفاء المسلمين، أم يحافظ على فعالية الدور المسيحي في حركة الاقتصاد الوطني؟

وأخيراً، ألم يكن من الأجدى أن تتفق القيادات المسيحية مع الحلفاء – الشركاء المسلمين على خريطة طريق، لإخراج البلاد من دوامة العجز والشلل والتعطيل، عوض الاندفاع نحو الانهيار والانتحار؟