تتكرّر الإعتداءاتُ على أقباط مصر وكأنهم باتوا هدفاً مباشراً للإرهاب الذي لا يفرّق بين البشر، وكأنّ قدرَهم أيضاً أن يعيشوا دربَ الجلجلة حتّى بعد نهاية زمن الصوم والجمعة العظيمة.
شاهد العالمُ عموماً، ولبنانُ خصوصاً، هذا الإرهاب الدامي الذي يسرَح ويمرَح في مصر، وكأنّ مسلسلَ تهجير المسيحيين في الشرق حطّ رحالَه في بلاد النيل، ليضرب أناساً مؤمنين ليست لديهم أهدافٌ سياسية توسّعية، وليسوا حصانَ طروادة لدول أجنبية، او أنهم ينشئون الميلشيات ويسلّحونها. هم مواطنون مصريون، يصيبُهم ما يصيب غيرَهم من أبناء بلدهم، يلتزمون قوانين دولتهم، يدفعون الضرائب، وليس الجزية طبعاً.
ويتساءل العديد من المواطنين والمسيحيين في لبنان والشرق، عن الضعف الذي بلغه هؤلاء الإرهابيون ليهاجموا الأقباط أمس مطلقين النار على حافلة تقلّهم الى أحد الأديرة غرب مدينة العدوة في محافظة المنيا. فهؤلاء الشهداء لم يكونوا متوجّهين الى ساحة القتال أو لشنِّ هجومٍ أو تنفيذ إغارة، كل ما كانوا ينوون فعلَه هو الصلاة والتضرّع الى الله، وهذه جريمة عظمى في قاموس الإرهابيين.
عندما يقع أيُّ إنفجار أو إستهداف، يخرج الأقباط ليؤكّدوا مجدّداً تمسّكهم بأرضهم المصرية، وأنّ أحداً لن يستطيع إقتلاعهم منها، ويعلمون علمَ اليقين أنّهم محكومون بمواجهة الحديد والنار دائماً وأبداً، وأنّ هذه الحرب التي تُشنّ عليهم وعلى الشعب المصري لن تتوقّف قريباً، لكنّ إيمانَهم الدائم بالله والمسيح يعطيهم قوّةً ليقاوِموا ويصمدوا من دون اللجوء الى السلاح أو تشكيل ميليشيات وجيوش خاصة من أجل حمايتهم.
ووسط حمام الدمّ الذي لن يتوقّف، يتخوّف المراقبون من وجود مخططات أكبر من هجمات عاديّة أو غير منظّمة، أي إنّ هناك اهدافاً من ورائها. فمشروعُ إفراغ الشرق من المسيحيين مستمرّ، والمحاولات لن تتوقف: مسيحيّو لبنان واجهوا على مدى 1500 عام كل أنواع الدواعش. العراق بات شبهَ خالٍ من مسيحيّيه خصوصاً بعد الدخول الأميركي عام 2003 من ثمّ إستُكمل مسلسلُ تهجيرهم مع بروز نجم «داعش». أعدادُ المسيحيين في فلسطين، أرض المسيح، تقلّصت بشكل كبير، أما مسيحيّو سوريا فيحاولون الصمود.
من هذا المنطلق، يتخوّف كثيرون من أن يكون دورُ أقباط مصر قد حان، وحتى لو كان المنفّذ غريباً لكنّ الأدوات داخلية، وذلك بهدف دفعهم الى الإنعزال والمطالبة بكيان مستقل أو دولتهم الخاصة مثل الأكراد، وبالتالي يكون مسلسلُ التقسيم وتفتيتُ دول الشرق قد إكتمل، لأنّ مصر بشكلها الحالي ومع إدارة الرئيس عبد الفتاح السيسي قادرةٌ على النهوض مجدّداً واستعادة دورها التاريخي، فيما أيّ حرب مذهبية ستُضعفها، وتُدخلها في دوامة عنف شبيهة بالعراق وسوريا، مع العلم أنها الدولة الوحيدة التي خرجت ممّا سُمّي «الربيع العربي» شبه سالمة.
أمام الدولة المصرية، وأقباط مصر، دربُ جلجلة يومي، فالمسيحي الذي يتمسّك ببقائه في مصر هو الإبن الأوّل لهذه الأرض، وحارسها، وإذا كان التراجعُ الديموغرافي قدّ قلّص دورَه وحضورَه، فهذا لا يعني أبداً أنه لم يعد موجوداً، فهو لم يبخل بتقديم الشهداء، لكنّ كل هذا يجب أن يدفع بالقيادات القبطية، الروحية والسياسية، وعلى رأسها بابا الأقباط تواضروس الثاني الى التفكير باستراتيجية حماية بالتنسيق مع الدولة المصرية لأنّ هذه الهجمات تُنذِر بالأسوأ.
يعرف المؤمنون في هذا الشرق الجريح أنّ الإستشهاد هو الطريق نحو القداسة، خصوصاً أنّ الشهداءَ الذين يسقطون هم أناس مسالمون، بينهم نساء وأطفال وعجّز، لا دخل لهم بالنزاعات التي تحصل، وأرواحُهم ليست صندوق بريد لبعض الدول أو الجماعات للإشارة الى منبع الإرهاب الحقيقي، أو لتوجيه رسائل دامية للغرب مثلاً، في حين أنّ الغرب لن يتحرّك إلّا حفاظاً على مصالحه، وليس كرمى لعيون أقباط مصر أو موارنة لبنان أو كلدان العراق. لذلك يؤكّد الأقباط أنّ عصر المقاومة الحقيقية قد بدأ.