كلام في السياسة |
… ثم، ماذا يريد خصم عون «المتربص» في الفريق الأزرق؟ القضاء على سعد الحريري وميشال عون دفعة واحدة؟! بضربة واحدة، أو طلقة واحدة؟! لا يمكن لعاقل أن يتصور تهوراً كهذا. لكن، ماذا لو حصل؟ ماذا يفعل «المنتصر» في اليوم التالي؟
لا لزوم للتخيل والتنظير لمعرفة الجواب. ثمة تجربة سابقة. ثمة مشهد مطابق. نفذه ذات يوم غازي كنعان. لمصلحة أحادية أو ثنائية أو ثلاثية، بين حكام عاصمته ونظرائهم في الرياض وواشنطن… لا فرق ولا هم. المهم، أن النموذج معروف ومسبوق، و»ديجا فو»، كما تقول اللغات الأجنبية عن تكرار المأساة والملهاة.
يومها، ولأسباب مختلفة وربما متبادلة، أخرج المسيحيون بقواهم الشرعية التمثيلية الفعلية، من معادلة الدولة، أو خرجوا منها. وتزامن ذلك مع إدخال فريق «المتربص» إلى تلك الدولة المطهرة المصحرة بالذات. واعتقد كثيرون أنهم ارتاحوا وأنهم استقروا وأنهم سادوا وتسيدوا وحتى تأبدوا… أي مفارقة أصلاً، أن يستعاد هذا الكلام أمام اللبنانيين، وأمام «المتربص» بالذات، بعد مرور أربعين عاماً كاملة على الدخول العسكري السوري إلى لبنان، وبعد ساعات على الدخول العسكري التركي إلى سوريا … السوريون دخلوا لبنان يومها من شماله وشرقه، وفي نفوسهم هاجس الفلسطينيين … والأتراك يدخلون سوريا اليوم من شمالها، فيما شرقها نهب للدواعش، وفي هاجس أنقره الأكراد … أصلاً، ومنذ أكثر من عقد، كان قد قيل في جغراسيا الشرق الأوسط الجديد، أن قضية فلسطين إلى تصفية، وأن كردستان هي اسرائيل الجديدة في الشرق الأوسط الجديد … هلالان لا بد من فتحهما، وسط الكلام عن «المتربص» وإليه، لنتذكر جميعاً كم أن تاريخنا دائري كروي مدولب. يعيد دروسه ولا من يتعلم!
هكذا، قد تصبح المقارنة بين المراحل أكثر قدرة على التقريب أو التعليم. ماذا يريد «المتربص» مثلاً، وطبعاً من معه ومن فوقه ومن تحته، من نسف ميثاقية كل الوطن، رئاسة، وقانون انتخاب، وحتى مؤسسات وإدارات عامة في آخر ما تبقى من شكل دولة؟! الاستئثار بالسلطة كهدف أول؟ لكن هذه التجربة ذاتها كانت قد طبقت بين العامين 1990 و2005. وكان «المتربص» نفسه شاهداً عليها. يومها، وبعد خروج المسيحيين من الدولة، استأثرت تركيبة الترويكتين، السورية أصلاً، شهابي – خدام – كنعان، واللبنانية لاحقاً، بكل الحكم والسلطة والدولة. فماذا حصل؟ بلى كان معهم مسيحيون. تماماً كما يقولون اليوم. كان معهم رؤساء جمهورية ووزراء ونواب وزعماء كتل نيابية ووزارية. وكيلا نختبئ خلف المعميات والمغفلات والتجهيلات، كان معهم ميشال المر وسليمان فرنجيه والطاشناق، ممن يمثلون مسيحياً… فضلاً عن أعداد وأسماء نسيها اللبنانيون و»المتربص» نفسه، ممن استنسخوا غب الطلب من هاتف عنجر أو من مخادع المساكن المجاورة… فإلى أين انتهى ذلك النظام؟ ألم يجد نفسه رفيق الحريري، بعظمته وقدراته وفضاءاته العملاقة في الداخل والإقليم والعالم، مضطراً لأن يعلن في ذلك المنتجع البيروتي، أن «البلد مش ماشي»، لأن هناك خصخصة شيعية باسم المقاومة واستقالة مسيحية باسم الإحباط؟!
وما كانت نهاية ذلك النظام؟ ألم يأكل أبناءه، واحداً واحداً، وطائفة طائفة وزعيماً زعيماً؟! حتى ورقة الإتيان بقائد الجيش رئيساً للجمهورية … ألم يجربها السوريون، للتغطية على الخلل الميثاقي؟ النظرية نفسها والمنظرون أنفسهم، مع تبادل ألقاب وانقلاب بعض الأدوار بين يومها واليوم. فصلوا نظرية أن البزة والنجوم والمؤسسة قادرة على أن تعوض المسيحيين قياداتهم والبلد ميثاقه… فهل نجحت المحاولة؟! ثم كررها «المتربص» مرة ثانية. ومرة ثانية كان الفشل نصيب البلد والدولة…
أكثر من ذلك، فلنذهب في واقعية حسابات البعض حتى آخر وحشيتها السوداء: تنتظرون رحيل ميشال عون؟ حسناً أيضاً. لكن ماذا لو لم يعط المسيحيون براءة ذمة عن اغتياله السياسي هذا؟! تماماً كما فعل السنة مع اغتيال رفيق الحريري والدروز مع اغتيال كمال جنبلاط والشيعة مع محاولة اغتيال مقاومة الإمام الصدر… ماذا، لو تحولت لعنة عون عقدة ميثاقية تفخخ تركيبة الوطن لأعوام، قد تكون كافية لانهياره؟!
لماذا كل هذا الحقد الإلغائي؟ لمجرد أنه في حسابات أحدهم، لا وجود له ضمن معادلة عون – بري – الحريري؟ لمجرد أن البدلاء يخشون الأصلاء؟ هل تستحق تلك النزعة كل هذه المقامرات بالميثاق ووثيقة الوفاق والدولة والوطن؟
على سيرة مقارنات المراحل، ذات يوم من العام 1990، كان أحد الوسطاء يفاوض عون على حل ما يشكل مخرجاً لاستسلامه. فقال له الرجل: لن أفاوض. قل لهم ان الخيارات محسومة. إما أن نتفق لإنقاذ البلد. وإما أن يكون بيني وبينهم وريث وحيد اسمه الطائف… بعد أكثر من ربع قرن، يبدو أن المعادلة نفسها قد عادت مع بعض فوارق. إما أن يتفقوا معه لإنقاذ الوطن. وإما بينه وبينهم وريث جديد، اسمه سقوط الطائف… حتى الرئيس نبيه بري قالها بصوت واضح. ألا يصدقون دولته حتى؟!