IMLebanon

طلعت ريحتكم”: أداء قد يساعد النظام الفاسد

أمام حشد التيار الوطني الحر أمس، يقفز إلى الذهن فوراً سؤال عمّا سيكون المشهد عليه في حال استنفرت الأحزاب السياسية الأخرى (تيار “المستقبل”، حركة “أمل”، “حزب الله”، الحزب التقدمي و”القوات اللبنانية”) جماهيرها يوم الأربعاء المقبل لتحيط بالمتحاورين على طاولة الرئيس نبيه بري. فحتى الآن عمدت القوى السياسية إلى ابتزاز المتظاهرين المطلبيين هنا وهناك للاستفادة منهم في تسجيل نقاط على خصومهم. أما الأربعاء المقبل فتبدأ مرحلة جديدة تظهر فيه هذه القوى مجتمعة بوضوح أكبر، لا لاستغلال بعضها التحركات المطلبية ضد البعض الآخر، بل لمواجهة هذه الظاهرة.

الأسوأ هنا أن “تشمير” السلطة عن زنودها لا يقابله تغيير في سلوك بعض المنظمين لمجموعات أساسية في التظاهرات، أو أقله شعور أو فهم للمسؤولية الملقاة على عاتقهم. فقد بات واضحاً أن واحدة من المجموعات ما هي إلا بقايا حركة اليسار الديمقراطي، وقد انضمت إليها وجوه جديدة من اليساريين الديمقراطيين. ولا شيء ــ سواء أزمة نفايات أو كهرباء أو مياه أو فرص عمل أو غيره ــ يشغل هؤلاء عن “حزب الله”. وهم يسرحون ويمرحون في ساحات “الحراك” حاملين صور فريق سياسيّ دون غيره، فيما لا تتدخل “طلعت ريحتكم” معهم لنهيهم أو طردهم، رغم تقديمها نفسها كحارسة لهذا الحراك من “الاستغلال السياسي”.

وفي السياق نفسه، بات واضحاً أن “طلعت ريحتكم” لديها أزمة حقيقية مع اقتراب مقرّبين من قوى 8 آذار من ساحات الاعتصام، فيما هي ترحّب وتهلل لهامشيّي 14 آذار، مع العلم بأن خلفية هذه المجموعة تجعل من موقف الأفرقاء اللبنانيين من الأزمة السورية معياراً أساسياً لتصنيف المواطنين. وهي لا تكتفي بمساواة الفاسدين الموصوفين بمن فعل كل ما يسمح السقف اللبنانيّ به لمحاربة الفساد، بل تصنّف المواطنين وفق قائمة واضحة “أخلاقي يمكنه الاحتجاج ضد الأوضاع المعيشية” و”غير أخلاقي”. والأكيد هنا أن “طلعت ريحتكم” أسوأ من الأحزاب التقليدية في عدم أخذها الملاحظات بعين الاعتبار، فيما يعتدّ “زعماؤها” بأنفسهم أكثر مما يفعل زعماء الأحزاب. فهي لم تبالِ بتوضيح هدفها من عدم تسييس التحرك، بعدما ثبت عدم مبالاتها بـ”عدم تنقيز” جمهوري المستقبل والاشتراكي، فها هي “تنقز” وتستفز وتعبّئ ضدها جمهوري التيار الوطني الحر وحزب الله. لا بل هي قدمت تنازلاً كبيراً لطمأنة جمهور “المستقبل” حين نقلت تحركها من ساحة رياض الصلح إلى ساحة الشهداء، لكنها لم تقدم في المقابل أي تنازل لطمأنة جمهور التيار الوطني الحر. وكان يمكن هذه المجموعة أن تثبت حداً أدنى من الوعي أو الحرص على استيعاب الرأي العام الطائفي وتفويت فرصة التحريض المذهبي عليها.

الواضح أن هذه المجموعة لا تريد من قريب أو بعيد أيّ علاقة بالجمهور العوني الذي يفترض أنه شريكها الرئيسي في محاربة الفساد. فـ”طلعت ريحتكم” لا تريد أي شركاء. رئيس هيئة التنسيق النقابية حنا غريب الذي حشد موظفي القطاع العام في اعتصامات عابرة للمذاهب والأحزاب وعطّل البلد والمدارس بموافقة الأهل انتصاراً لحقوق الأساتذة ليس شريكاً مقبولاً. والتيار الذي تقدم بأكثر من ثلاثين مشروعاً إصلاحياً لمختلف القطاعات تنام في أدراج مجلس النواب ليس شريكاً مقبولاً. المقبولون هم عشرات الجمعيات التي تعيث فساداً في البلد، مسطّرة فواتير خيالية هنا وهناك. المقبولون هم فرح العطاء الذين يلوّنون الأدراج ويطيّرون الحمام هنا وهناك. المسرحيون والمخرجون والممثلون والفنانون والمغنون، وطبعاً الوجوه الإعلامية المعروفة، مقبولون، أما العمال والمزارعون والنقابيون وغيرهم فيفضّل وجودهم في الصفوف الخلفية جداً أو هم مرفوضون. زياد بارود مقبول نسبياً، أما غسان مخيبر الذي يرتدي قناع بارود لكنه ينحاز بوضوح إلى فريق سياسي فهو مرفوض.

ما سبق كان يمكن تجاهله لولا تظاهرة السبت. فأعضاء “طلعت ريحتكم” لا يبالون في قرارة أنفسهم بكل هذا؛ هم مجموعة شباب يثقون بأنهم “فانديتا” لبنان يريدون توجيه ضربة هنا وأخرى هناك وإكمال حياتهم على نحو طبيعيّ: يعتصمون السبت ويذهبون إلى البحر الأحد، يتظاهرون بعد الظهر ضد سوكلين ويتناولون الترويقة قبل الظهر في “الزيتونة باي”. إلا أن تظاهرة السبت أثبتت أن هناك ما هو أكثر من رش الجدران ببضعة شعارات في طريقهم إلى مار مخايل أو بدارو. هناك من كانوا ينتظرون فعلاً اللحظة المؤاتية لإسماع السلطة صوتهم. هؤلاء كانوا في ساحة الشهداء ولاحظوا حجم “بدنا نحاسب” وغيرها، ويلاحظون الاهتمام الإعلامي بكل مجموعة فيفهمون أكثر فأكثر. ومن كان في منزله يلاحظ بوضوح الفرق بين:

1ــ تحرك “طلعت ريحتكم” ضد وزارة البيئة الذي انتهى من دون إصدار بيان، أقله يوضح للرأي العام ماذا حصل، وكان يمكن وضعه في سياق التعبئة لو واكبه المنظمون بحملة شعبية أو خطوة ثانية، إلا أنه يبدو الآن مجرد قفزة استعراضية في الهواء،

2ــ وتحرك “بدنا نحاسب” ضد عدادات الوقوف على كورنيش بيروت الذي أفضى إلى نتيجة، وأظهر إحاطة المنظمين بكل الخطوات المطلوبة من البداية إلى النهاية لإنجاح التحرك.

السلطة أعطت “طلعت ريحتكم” فترة سماح يمكن وصفها بالطويلة، إلا أن أفرقاء السلطة يجمعون صفوفهم الآن. في الفترة السابقة كان الهامش الممنوح لـ”طلعت ريحتكم” من أجل معالجة بعض الثغر كبير. أما الآن فهو سيضيق أكثر فأكثر. لوهلة بدا أن المنظمين تعلموا من أخطاء منظمي حملة إسقاط النظام الطائفي، إلا أن الواضح اليوم أنهم استخلصوا الأخطاء ليبنوا حملتهم عليها. فأداؤهم يدفع جمهور الأحزاب السياسية صوب التمسك بالنظام الفاسد، بعدما دفعته الحملة السابقة بنفسها إلى الهتاف باسم النظام الطائفيّ. والمخيف هنا أن لحظة المواجهة المتوقعة بين “الجمهور الفاسد الضخم” بحسب توصيف “طلعت ريحتكم” دائماً، و”الجمهور النظيف الصغير” لن تكون لحظة حوار وديّ أو مناظرة تلفزيونية يديرها أحد المتدربين على حلّ النزاعات، بل لحظة مرعبة في ظل خشية الزعماء على مكاسب خاضوا 15 عاماً من الحرب الأهلية لتحقيقها وناشطين يعتقدون أنهم في الدنمارك.