داخ اللبنانيون في دوامة الهذر اللغوي الذي تغرقهم فيه الطبقة السياسية، بأصولها والفروع، لتبرير ما لا يُبرَّر من إبداعاتها في فنون تعطيل الدولة بمؤسساتها ـ الأم: الرئاسة الأولى ومجلس النواب… ثم مجلس الوزراء.
صار الفراغ في القصر الجمهوري «طبيعياً» لا يستفز أحداً ولا يستثير خجل هؤلاء الذين لا يؤدون واجبهم ـ مدفوع الأجر ـ في انتخاب رئيس، بل إن مواصفات «الرئيس» العتيد باتت مطروحة في المزاد الطائفي: لم يعد يكفي أن يكون الرئيس «مارونياً» طبيعياً… بل لا بد أن يكون الأعرق أو الأعظم مارونية، كأنما تحكم «الطائفة الممتازة» تراتبية محددة ويتوزع أبناؤها درجات درجات… والحكم للدرجة الأولى!
هي دولة بلا رأس! لكن التبرير جاهز: إنها ليست المرة الأولى، وقد جرّبنا هذا الأمر مراراً ولم تنقص قيمة لبنان، ولا تأثر دوره عربياً أو دولياً.
أما انعقاد مجلس الوزراء في جلسة عادية، ولو من أجل الوصول إلى حل سحري لأزمة النفايات فيحتاج إلى سلسلة من المعجزات، إذ ربطت المطالب المزمنة بالاحتياجات الراهنة… وهكذا فإن شغور موقع الرئاسة الأولى يجعل من كل وزير ماروني «رئيساً» له حق الفيتو.. وبالتالي فإن غياب وزير من أصل 24 يكفي لتعطيل الحكومة، وهي آخر ما تبقى من الدولة، ولا تهم النتائج المؤثرة سلباً على حياة المواطنين، فحقوق الطائفة العظمى تتقدم على كل ما عداها، وهذه فرصة ذهبية لتأكيدها.
.. وصار انعقاد مجلس النواب حلماً أو أمنية وبحاجة إلى معجزة تتخطى قدرات كبير السحرة الذي استنفد ما في جعبته من «بدع» و «تخريجات».
مع ذلك يُتاح للرعايا أن يستمتعوا، مرتين في الأسبوع، بمشهد تاريخي: ينزل النواب إلى مجلسهم بالسيارات الفخمة المدخلة من دون جمارك، والتي يقودها ويتولى حماية من فيها رجال أمن يتلقون رواتبهم من خزينة الدولة المهددة بالإفلاس.
يدخل النواب مجلسهم قافزين الدرجات القليلة، بينما تواكبهم أسراب الحمام التي أفزعها الموكب المسلح… يتناولون القهوة أو الشاي أو المرطبات (على حساب المجلس طبعاً). يتبادلون (موالين ومعارضين) آخر النكات والتشنيعات. يقفون أمام عدسات المصورين مبتسمين كمن أكمل مهمة خطيرة… فإذا ما أحسوا بخطر اكتمال النصاب افرنقعوا منفذين تعليمات قادتهم العظماء الذين نادراً ما يتجشمون عناء الانتقال إلى تلك الندوة التي يدوي فراغها في البلاد وخارجها. إنه مجلس فريد في بابه، فأعضاؤه لا يجلسون في قاعة التشريع، بل يتوزعون خارجها ثم يطلقون التصريحات النارية عن خطورة الفراغ على… النظام الديموقراطي.
تطمر الزبالة الطرقات، تحاصر البيوت والمستشفيات، المدارس والجامعات: ويعجز هؤلاء العباقرة الذين طالما ابتدعوا الحلول بالثمن لمشكلات أكثر تعقيداً، عن إيجاد حل ولو مكلف لهذه المشكلة التي فُرض علينا أن نعيش معها، بل في قلبها، في انتظار معجزة لن تقع.
لا حساب ولا عقاب، ولا حتى عتاب.
دولة خارج المألوف. مؤسساتها معطلة، والميزانية التي تحتاج إلى «عجيبة» لإنجاز حساباتها وألف «عجيبة» لتأمين الموارد، متروكة للريح… ووزير المالية يقصد إلى وزارة الدفاع ليبلغ قائد الجيش أنه قد تمكّن من تأمين رواتب الشهر الذي مضى، أما الشهر المقبل فعلى الله.. ولا يفزع اللبنانيون من هذا المشهد النادر، والذي يمكن إدراجه في خانة خرق المستحيل!
اللبنانيون خارج دولتهم، وهي خارجهم. الحديث عن المؤسسات لغو، والحديث عن «المواطن» بلا معنى. فليس في دولة استولدها هذا النظام مكان للشعب. هناك أفراد بلا مجموع، ومجاميعهم طوائف، والطوائف لاغية الوطن والدولة.
اللبنانيون آحاد وليسوا مجاميع.
دولة بلا رأس، وبلا حكومة، وبلا مجلس نواب، وبجيش مهدد في رواتبه، مع ذلك تجد من يبادرك: أشكر ربك! أنظر حولك وماذا جرى للدول القوية فتتأكد أنك بألف خير!