من كبار رجال التاريخ الذين ارتبطت أوطانهم بسلطتهم الأبوية: كان الرئيس جورج واشنطن يُعتبر أبَ الجمهورية الأميركية، ولينين أبَ الإتحاد السيوفياتي، وأتاتورك أبَ الجمهورية التركية، وأحمد سوكارنو أباً لجمهورية أندونيسيا.
واقع أندونيسيا، كان أكثر ما يشبهنا، تتعايش فيها خمسة أديان رسمية، ومبدأ التوافق كان من صلب فلسفة النظام، وقد جعل منها سوكارنو جمهورية ديمقراطية على النسق الغربي، فأطلق حرية الأحزاب والإعلام وحركة التمثيل الشعبي وشرعة حقوق الإنسان.
ولكن… عندما حلَّ على الأحزاب شبح التورُّط بارتباطات خارجية أطاحَتْ «النأي بالنفس».. وأدّى الإنقسام والصراع الداخلي الى تعاقب الأزمات الحكومية، حوّل سوكارنو نفسه – وبصفته الأبوية – الى ماركسي واشتراكي ورأسمالي وديكتاتوري وديمقراطي لإنقاذ أندونيسيا من الإنهيار.
هذه الصفة الأبوية التي أُطلقت على العهد العوني.. وفي ظل تفاقم الإمتدادات الخارجية عندنا، وتأثيرها على تعاقب الأزمات بسبب عدم النأي بالنفس، ألا يحق «لأبي الكلّ» أنْ يجعل من نفسه: التيار الوطني الحر وحزب الله والمستقبل والقوات والإشتراكي والكتائبي والأحرار والقومي والشيوعي والبعثي، الى آخر السلسلة الحزبية المترامية الأطراف بين الداخل والخارج… لإنقاذ لبنان من شيطنة الداخل في الخارج، والخارج في الداخل؟
إنّ أمام الأب الرئيس هذه الإسطورة التاريخية التي إسمها «النأي بالنفس»، والتي رافقت إنطلاقة الإستقلال في البيان الوزاري الأول لحكومة رياض الصلح… والتي راحت تجرّر أذيالها على مدى العهود السالفة، ولا تزال…
وهي الأسطورة التي عُرِفَتْ «بإعلان بعبدا» عهد الرئيس ميشال سليمان وحكومة الرئيس نجيب ميقاتي…
وهي التي برزت في خطاب القسم لرئيس جمهورية «بَيْ الكل»… وهي التي شكلت مخرج البيان الوزاري لحكومة استعادة الثقة…
وهي التي شكلت مخرج رئيس الحكومة لاستعادة الإستقالة…
وقد تظل هي المعادلة التي أعلن فشلها الصحافي جورج نقاش في جريدة «الأوريان» سنة 1949 لأنها تقوم على رفضين وعلى «لائين»: «لا للغرب ولا للعروبة»، فيما يستبعد علماء النفس إستعمال أدوات النفي في وسائل المعالجة لتحلَّ «النعم نَعَمْ، محل اللاّ لا»…
فخامة الرئيس.
ألستَ أنت القائل لبعض زوار القصر: «معنا ليس هناك من أزمة لا يمكن حلّها…؟»
هذه الأزمة التاريخية لا تزال مرضاً وطنياً عضالاً يستعصي على اللقاحات ويتحدّى الرئاسات، بل لعلها تنتظر الرئيس الفعلي لا الرئيس الرسمي.
يقول هارولد لاسويل Lasswell العالم الإجتماعي الأميركي: «إنّ الأقدر سياسياً هو الأقدر على صنع القرار، وإنَّ الحاكم الحقيقي ليس دائماً الحاكم الرسمي، بل قد يكون هناك حاكمٌ رسمي وحاكمٌ فعلي…»
أنت لا تنطبق عليك ازدواجية المعنى، فالرسمي عندك هو الفعلي.
ومن شيمة الرئيس الفعلي أن يرتبط وطنه بسلطته الأبوية، فلا ينتظر أن يُكتب إسمه على شارع في العاصمة، أو أن يُشادَ باسمه قصر للمؤتمرات.
بل أن يتحقق على يده وفي عهده قرار تاريخي بإعادة لبنان التاريخي الى لبنان.
والرئيس القوي يستطيع بهيبة القامة أن يحرّك الزمن المجّمد.
والقصر العالي لا ينخفض فيه السقف إذا كانت القامة عالية.