التقدّم نحو انتخاب رئيس الجمهورية يستند إلى تفاهمات، تمّت أو ستتمّ، بين القيادات السياسية الرئيسية في البلاد. هدف التفاهمات هو توزيع المناصب والمواقع والمنافع بين القوى والزعامات الممثلة للطوائف.
ولكنّ اقتصار «التفاهمات الوطنية» على توزيع المغانم دون تضمينها، ولو بالحدّ الأدنى، تصوّرات وتوجّهات لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية أمرٌ يدعو إلى الاحباط. فالدولة اللبنانية تقف على شفير الإفلاس، ونسبة كبيرة من اللبنانيين تعاني الفقر والعوز.
البرنامج الاقتصادي للإنقاذ ليس ترفا، والتصدّي للواقع المتهافت لا يحتمل التأجيل، فمجالات الاعتماد على الخارج لدعم الاقتصاد الوطني تضيق مع تغيّر ظروف المنطقة ومع التبدّلات الكبيرة في الاقتصاد العالمي، لا سيما في مجال الطاقة.
كان لبنان يعتمد إلى حد كبير على «فائض النعمة» في بلدان الخليج، التي زوّدته بمساعدات واستثمارات وسيّاح وهبات وودائع، وفتحت أمام أبنائه أبواب المشاريع وفرص العمل. ولكن شريان الخليج يضيق مع الوقت، ولن يكفي لضخّ كمّية الدم التي يحتاج إليها قلب الاقتصاد اللبناني. ويرجّح ألا تكون التطوّرات الراهنة في الاقتصاد الخليجي مجرّد أزمة ظرفية، بل هي مؤشر على منحى جديد في المنطقة لا علاقة له بالعقود الثمانية التي انقضت. ويمكن الاستدلال على تراجع الاقتصاد الخليجي من خلال تراجع مؤشرات الاقتصاد السعودي، أكبر اقتصاديات الخليج والعالم العربي.
يتبيّن من التقارير الموثوقة والحديثة، السعودية والدولية، أن نموّ الناتج المحلي في المملكة انخفض من 10 في المئة سنة 2011 إلى 3.5 في المئة سنة 2015، ليصل إلى حدود 1 في المئة في نهاية العام الجاري. ويهبط الناتج المحلي الاسمي من 755 مليار دولار سنة 2014 إلى 601 مليار دولار نهاية هذه السنة، وفق تقديرات البنك الأهلي التجاري. يعود هذا التراجع إلى تقلّص نموّ الناتج المحلي النفطي خلال السنوات الخمس المنصرمة من 12.2 في المئة إلى 0.6 في المئة والناتج غير النفطي من 8.1 في المئة إلى 1.6 في المئة.
هبطت الإيرادات النفطية للدولة بشكل عمودي من 41.2 في المئة من الناتج المحلي سنة 2011 إلى 14.2 في المئة في العام الحالي. ويتوقع في نهاية العام أن يصبح عجز الموازنة السعودية بحدود 13 في المئة من الناتج المحلي، بعدما بلغ حدود 16 في المئة نهاية العام الماضي. ومن أهمّ المؤشرات السلبية وأبلغها انخفاض رصيد الحساب الجاري في ميزان المدفوعات، في الفترة نفسها، من فائض يقارب 160 مليار دولار أميركي إلى عجز يزيد قليلاً عن 40 مليار دولار، أي من فائض نسبته 23.7 في المئة من الناتج إلى عجز بنسبة 8.3 في المئة سنة 2015 و6.5 في المئة سنة 2016.
يقدّر تراجع صافي الأصول الأجنبية لدى مؤسّسة النقد السعودي من 724 مليار دولار سنة 2014 إلى 543 ملياراً في السنة الحالية، بسبب استعمال هذه الاحتياطات في تمويل عجز الموازنة. ينتج هذا العجز أساساً من انخفاض سعر النفط والأعباء الكبيرة التي تترتّب على المملكة نتيجة اشتراكها، المباشر وغير المباشر، في نزاعات المنطقة، لا سيما اليمن وسوريا.
تستطيع المملكة أن تواجه أوضاعها المالية الصعبة بما تملكه من احتياطي نفطي كبير واحتياطي نقدي لدى مؤسّسة النقد، إضافة إلى أسهمها في الشركات المحلية الموجودة بحوزة صندوق الاستثمارات العامّة والمقدّرة قيمتها بحوالى 130 مليار دولار. ولكن المملكة، وهذا ما يهمّ لبنان، أصبحت مضطرة لتقنين إنفاقها وترشيده وخفض الإنفاق الاستثماري، بما يؤثر على فرص عمل اللبنانيين وسواهم فيها، وكذلك على استثمارات السعوديين في الخارج، ومن بينها استثماراتهم في لبنان. إن البرنامج الذي سمّي «رؤية المملكة 2030» يظهر تحسّس قيادتها بعمق التغيير الذي يحيط باقتصادها.
أشار صندوق النقد الدولي في تقرير شامل عن الاقتصاد السعودي نشر في الأسبوع الماضي إلى أن الأوضاع الاقتصادية المستجدّة في السعودية ستترك آثارها على البلدان المجاورة لها في الخليج العربي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما فيها لبنان، الذي ذكره التقرير بالاسم. ويفيد التقرير، على سبيل المثال، بأن تحويلات العاملين من المملكة بلغت في العام الماضي 38 مليار دولار، وتحصل خمس دول عربية، بينها لبنان، على 90% من هذه التدفقات إلى بلدان المنطقة. وتوقع أن تتأثر اقتصادات هذه البلدان سلباً جراء تدابير الإصلاح المالي وإصلاحات سوق العمل والتوجّه إلى خفض العمالة الوافدة. ولا يقتصر الأمر على تحويلات العاملين، بل سيشمل أيضاً الاستيراد وسفر السيّاح السعوديين والمعونات المالية إلى بلدان مثل مصر والسودان ولبنان واليمن.
وتجدر الإشارة إلى أن الاتجاه التراجعي الراهن للاقتصاد السعودي يتزامن مع تراجع اقتصادات العديد من دول مجلس التعاون الخليجي للأسباب نفسها، ما يؤثر على لبنان، خصوصاً في الإمارات العربية المتحدة التي تستقطب جزءاً كبيراً من العمالة اللبنانية في الخارج.
ليست هذه الأسباب هي الدليل الوحيد على حاجة لبنان إلى قيادة خلاقة ذات برنامج اقتصادي يقوم على تجنيد كل الطاقات لتطوير الاقتصاد اللبناني وتكبير حجمه. ولكن أوضاع الخليج الاقتصادية هي تأكيد على أن لبنان لم يعد يستطيع الاعتماد إلا على نفسه للخروج من وضعه الاقتصادي والاجتماعي بالغ التردّي.
نقل عن الإمام الشافعي قوله «ما حك جلدك مثل ظفرك، فتولّ أنت جميع أمرك». لكن ما ينطبق على وضعنا أكثر هو المثل العامّي اللبناني «إذا جارك بخير أنت بخير». وعلينا أن نعي أكثر من أي وقت مضى أن جارنا الخليجي ليس بخير، أقله في المدى المنظور، ولا غنى عن جهد داخلي جبّار لإخراج البلاد من أزمتها. ومن الخطأ الاعتقاد أن الاكتفاء بتقاسم المناصب والمكاسب في سياق التحضير لملء الفراغ الرئاسي من شأنه وحده نقل لبنان من الجحيم إلى النعيم.