لا شيء مستعجل. من انتظر سنة ونصف لانتخاب الرئيس يمكنه انتظار المزيد. فتيل المتحاورين طويل.. وهم يعرفون أن «القضية مش هينة». ومع ذلك فالتطور كبير بين الجلسة الأولى والثانية. بعد الجلسة الأولى، اعتبر الوزير رشيد درباس أنها كانت جلسة استهلالية. أمس وصف الجلسة بالتمهيدية! والأسبوع المقبل (الثلاثاء) قد تكون الجلسة تحضيرية على أن تليها أخرى استعدادية.. باختصار ما يجري في مجلس النواب بدا مراوحة لا تهدف إلا إلى كسب الوقت، على أمل وصول كلمة السر الإقليمية في إحدى الجلسات المقبلة.
وبالرغم من أن البند الاول المتعلق برئاسة الجمهورية سلك طريقه، نظرياً، نحو «المزيد من النقاش والدرس والإيجابية»، إلا أن الخلاصة ظلت على حالها: لا شيء. أما الحجة فهي أن بند الرئاسة «ليس سهلاً». وهو بحاجة لـ «كم يوم». من خرج من الباب الرئيسي للمجلس، أوحى بالتفاؤل وأشاد بالأجواء الإيجابية: «لمسنا أن هناك تقدماً»، قال نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري. «هناك تقارب وتقدم»، قال الوزير بطرس حرب. وكذلك فعل الرئيس فؤاد السنيورة. لكن وحده الرئيس نجيب ميقاتي قالها كما هي. فبعد إشادته بالأجواء الجيدة، قال: نتقدم خطوة إلى الأمام ونعود ثلاثاً إلى الوراء.
عملياً، بدت طاولة الحوار باهتة، إن بالرئاسة الموعودة أو بالسلطة العاجزة. لكن الأخطر أن المشهد من الخارج، حيث تجمع المعتصمون اعتراضاً على «الطاولة»، أوحى بالنسبة لهم أن أقطابها، أو معظمهم، كانوا قد حسموا أمرهم قبل الدخول إلى الاجتماع. الأولوية لتنفيذ خطة النفايات مهما كلف الأمر. وهذا يعني تذليل العقبات التي في طريقها، وأساسها المرابضون في الساحة دفاعاً عن حقوقهم، بالقوة.
الإشارات كانت قد تناسقت بدقة أمس وأمس الأول. إشارات سياسية وأمنية مهدت لحالات عنف لم يشهدها المعتصمون منذ موقعة إطلاق الرصاص في 22 آب.
أمس، كان القرار حاسماً. المطلوب إنهاء الحراك بأي ثمن.. أو بدقة أكثر بـ «البلطجة». نزع رجال الأمن ومكافحة الشغب شعارهم الفضفاض «منكم، لكم، لحمايتكم»، وعادوا ليكونوا نسخة طبق الأصل عن السلطة التي يحمونها من الناس. نزعوا قناعهم ولبسوا خوذاتهم وفتكوا بالمعتصمين. يرون من بعيد أحد الأشخاص الذي يبدو معروفاً بالنسبة لهم. يزيحون السياج الذي وضعوه ويركضون باتجاه فريستهم. يحيطون بها حجباً لجريمتهم، ثم يبدأون بالضرب. الهراوات لا تميز الرأس عن الصدر عن اليدين والرجلين والظهر.. كل الجسد العاجز المنهك المرمي أمامهم على الأرض هو هدف مشروع لحفلة جنون، لا تبالي لا بصراخ الضحية من الألم ولا بصراخ رفاقه الذين لا يعرفون من منهم سيكون الفريسة الثانية.
يسحب العناصر الأمنيون فريستهم بعد أن يكونوا قد فتكوا بها إلى منطقتهم الأمنية المحظورة على الشعب، من دون التقصير في الركل واللكم والسباب، قبل أن يرّحل من يهدد السلم الوطني إلى أحد مخافر العاصمة.
في الشارع بين جريدة «النهار» وبلدية بيروت، وبعيداً عن «خط التماس» مع المعتصمين، تبدو القوى الأمنية في رحلة صيفية أكثر منها في مهمة. يتسامرون ويقهقهون ويسخرون من الناس. يأكلون ويشربون، ثم يسعون لإقناع أنفسهم بأنهم حماة الحق في وجه المخربين.
المسؤول الأمني الذي يدير العملية يقول لـ «السفير»، إن ثمة قراراً باعتقال كل المسؤولين عن الشغب. علماً أن يوم أمس تحديداً كان أقل الأيام شغباً، فلم يتعد الأمر إزالة السياج الحديدي من أمام جريدة «النهار» والهتاف ضد «الزعران». قال المسؤول إن المعتصمين زادوها، فهم يحملون كراتين البيض، ويتعرضون بالسباب للعناصر. هذه هي الجريمة إذاً. وأين الشغب في ذلك، وهل السباب موجه للعسكر في الأساس؟ حجج واهية سيقت فقط لتبرئة القوى الأمنية من بطشها. لا بل أكثر من ذلك، قال المصدر إن «العنف كان متبادلاً». معادلة بدت غريبة، إذ كيف يعقل أن يقارن الأعزل بالمدجج بالعنف؟ يعرف المصدر أن المقارنة لا تجوز، تماماً كما يعرف أن ثمة قراراً واضحاً يقضي بإلقاء القبض على «مفاتيح الشغب».
بدا جلياً أن الحوارات التي حادت عن أهدافها لتركز على قمع المتظاهرين لم تنجح لا في حوارها ولا في تغيير أجندتها وإن ركز حوار أمس، من خارج جدول الاعمال، على «دعم الحكومة لتنفيذ القرارات المتخذة بمعالجة الملفات الحياتية الأساسية».
كل ذلك لم ينفع. أثبت الناس أنهم لا يزالون أصحاب المبادرة. الاعتقال والضرب لن يكسرا عزيمتهم، فيما عزيمة المتحاورين بدت في مأزق بعد الفشل في تطويق التحرك والفشل في الإيحاء أن المبادرة في يدهم.
أمس غاب ميشال عون، وقبله اعتذر سمير جعجع، وإذا صحت الأخبار المتناقلة، فإن عون قد لا يشارك في الجلسة المقبلة. الحوار خطا «ثلاث خطوات إلى الوراء». هذا ما أكده البيان الرسمي الثاني الذي أذاعه الأمين العام لمجلس النواب: تابع المجتمعون مناقشة جدول الأعمال انطلاقاً مما طرح في الجلسة الماضية، وحصلت مقاربات سياسية ودستورية لكيفية حصول اختراق في بند انتخاب رئيس للجمهورية وغيره من المواضيع ومحاولة البناء على قواسم مشتركة في المداخلات لتسويقها في الجلسات المقبلة.