بعد الزبداني، إكتمل مسارُ الحرب في سوريا. إنها على خطى حرب لبنان (1975- 1990): معارك هنا وهناك، إجتياحات «مضبوطة»، وهدنات هشّة… إنتظاراً لتسوية إقليمية- دولية. لكنّ لبنان، بعد 40 عاماً، لم يخرج من الحرب، بأشكالها الساخنة والباردة. والواضح أنه ينتظر سوريا… بعدما انتظرته طويلاً!
أخطر ما طرأ على المشهد السوري، في الأشهر الأخيرة، هو أنّ المتقاتلين السوريين جميعاً استسلموا تماماً للعجز. لا أحدَ منهم قادر على اتخاذ قرار بإنهاء الحرب أو باستمرارها. فالقرار بات يملكه الروس والإيرانيون والأتراك والأميركيون، والإسرائيليون من وراء الجميع.
والمثير أنّ القوى الداخلية السورية، الرئيس بشّار الأسد والآخرين جميعاً، هم اليوم أبرز الغائبين عن الملف الموضوع على طاولة المساومات في الأمم المتحدة. فيما القوى الخارجية الكبرى تجاهد لتقاسم المصالح والنفوذ. ولذلك، يبدو مصير سوريا مهدَّداً بالتقسيم الجغرافي، في نهاية المطاف.
لقد نجح الروس والإيرانيون باكراً في إقناع إدارة الرئيس باراك أوباما بأنّ استمرارَ الأسد في هذه المرحلة ضروري. ففي الاتفاق حول الملف الكيماوي، بين جون كيري وسيرغي لافروف، في أيلول العام 2013، أفشل الروس أيّ ضربة للأسد.
وفي اتفاق فيينا حول الملف النووي مع الإيرانيين، في تموز الفائت، بات الأميركيون أكثرَ ليونة تجاه الأسد، وأصبح مقبولاً استمراره في الفترة الانتقالية. وملامح هذا القبول بدأت تظهر مع المواقف الأوروبية المستجدّة، المتساهلة مع بقاء الأسد.
ويطلق أوباما مواقفَ متشدِّدة إزاءَ الأسد في العلن، لكنّ المواكبين في مكاتب الأبحاث الأميركية يملكون معلوماتٍ تؤكد أنّ واشنطن تبدي خلال مفاوضاتها موافقة على بقاء الأسد خلال المرحلة الانتقالية. وأما خلافها مع موسكو فيتمحور على تفاصيل تلك المرحلة:
الروس يطرحون تشكيل حكومة انتقالية ذات صلاحيات موسّعة، تتعايش مع الأسد بعد تقليص صلاحياته. وبعد عامين، تجرى انتخابات رئاسية تشرف عليها الدولة، ويكون فيها الأسد أحد المرشحين. وهنا يكمن الخلاف. فالأميركيون يرون وجوبَ ابتعاد الأسد عن هذه الانتخابات، وأن تجرى بإشراف مرجعية دولية.
وفي العمق، يريد بوتين أن يحارب أوباما بسلاح الوقت. وتحديداً، هو يسعى إلى اتفاق يثبِّت الأسد في مستقبل سوريا. ويريد أن تكون المرحلة الانتقالية مجرد سيناريو شكلي يعيد ترسيخ الأسد على كامل سوريا. وأما أوباما فيريد أن تكون المرحلة الانتقالية ممرّاً إجبارياً لخروج الأسد، بحيث تختار الأكثرية الشعبية رئيسها التالي ديموقراطياً.
وينتقد بعض المتابعين في واشنطن ما يسمّونه جمود أوباما أمام دينامية بوتين. فالرئيس الروسي يدرك أنّ عامل الوقت ليس في مصلحة أوباما لضرورات أميركية داخلية. فإذا تمّ التوافق اليوم على التسوية المرحلية التي تدوم سنتين في سوريا، فإنّ رئيساً جديداً للولايات المتحدة سيُنتخب خلالها، وتحديداً بعد أكثر من عام بقليل.
والرئيس الجديد، سواءٌ كان ديموقراطياً أو جمهورياً، سيحتاج إلى فترة تزيد عن العام ليتمكن من الإمساك تماماً بزمام الملفات الدولية المعقدة، ومنها سوريا. ويطمح الروس إلى استغلال هذه النقطة الضعيفة، بتثبيت صيغة تضمن للأسد أن يرسِّخ قدميه إلى مدى غير محدَّد.
ويتجنّب بوتين تطييرَ الفرصة السانحة لإنجاز اتفاق مع رئيس أميركي كأوباما لا كجورج بوش الأب أو الإبن. وهو يقدِّم له الإغراءات ليعترف بالأسد كجزء من الحلف المقترَح ضدّ الإرهاب، ما يوفِّر له حماية مضمونة. لكنّ المتابعين يؤكدون أنّ أوباما ليس في وارد الموافقة على صفقة من هذا النوع. ولذلك، لا ملامح لمفاوضات مثمرة حول مستقبل الأسد في المدى المنظور.
إذاً، تحت هذا السقف السياسي، بدأ ترتيب الأرض في سوريا. والملامح الأولى كانت الاتفاق الذي تمّ برعاية إيرانية على الهدنة في الزبداني وبلدتي كفريا والفوعة في ريف إدلب. وبعد فشل التسوية السياسية، الأرجح أنّ الأطراف المتصارعين سيلجأون إلى نموذج الزبداني في كلّ المناطق الساخنة، تباعاً.
ومع الوقت، ستكون سوريا في حراسة سلسلة من الهدنات الموضعية من الشمال إلى الجنوب. وستستمرُّ المعادلة العسكرية القائمة حالياً، والتي لم يستطع أحد تغييرها منذ أشهر طويلة، على رغم شراسة المعارك. وفي وجود الروس، بات النظامُ مطمئنّاً إلى مصيره بعد فترات شعر فيها بالضعف أمام هجمات «النصرة» و»أحرار الشام» و»جيش الفتح»، على المعقل الساحلي خصوصاً.
وفقاً لنموذج الزبداني، جرى إخلاء للمسلحين والسلاح. ووفقاً لنموذج كفريا والفوعة، جرى إجلاء نحو 10 آلاف من الأهالي الشيعة إلى مناطق «آمنة» لهم. وقد كان مطلب إيران الأساسي إجراء مقايضة سكانية، بحيث يأتي شيعة البلدتين (40 ألفاً) إلى الزبداني التي يغادرها أهلها السنّة إلى ريف إدلب.
وثمّة أسئلة جدّية في الكثير من أوساطٍ معارِضة عن الحيثيات التي دفعت بـ»أحرار الشام» وحلفائهم إلى الموافقة على تسوية مريحة لإيران و»حزب الله» إلى هذه الدرجة. وهناك اعتراضات واسعة عليها. فبعد السيناريو في الزبداني، بات الأسد أكثرَ اطمئناناً إلى الوضع في محيط دمشق، وبات «الحزب» مرتاحاً إلى متانة وضعه في المنطقة الحدودية مع لبنان.
ويسأل كثيرون: مَن هو العقل الذي أوحى بهدنة من هذا النوع؟ وهل أرادها عمداً بمثابة مدخل إلى تكريس الفرز في سوريا؟ وهل إنّ دخول الأمم المتحدة على الخط هدفه تكريس الهدنة ومنحها طابعاً مرجعياً دولياً، يمكن تكريسه على الورق في أيّ لحظة؟
إذا نجحت القوى الدولية في بلوغ التسوية السياسية الكبرى، فهذا يعني أنّ سوريا قد تنجو من التقسيم أو التفتيت. وأما إذا فشلت التسوية، فالمؤكد أنّ سوريا ستفشل في استعادة وحدتها.
وفي هذه الحال، ستكون هدنة الزبداني أنموذجاً لهدنات متلاحقة يرضخ لها المتنازعون، لأنّ كلّاً منهم عاجزٌ عن تحقيق الفتوحات العسكرية التي يطمح إليها. ففي ظلّ حرب لا أفقَ زمنياً لها، الأفضل للجميع أن يَحدّوا من الخسائر ويخفِّفوا من الوجع.