إذا كان الزحليون قد فاخروا دائماً بكون مدينتهم الأولى في لبنان التي عرفت إستقلالية في التقدم بمشاريع إنمائية منذ عهد المتصرفية حتى عصرنا الحالي، فإن الواقع الإقتصادي والمالي الذي يزداد ضغطاً على أبناء المدينة منذ أكثر من عامين، جعلهم يستشعرون خوفاً وجودياً، بعدما صار همّ الكثيرين من أبناء المدينة، وخصوصاً شبابها، الهجرة.
ليست هجرة الزحليين جديدة، لا بل أموال مغتربيها الأوائل بنت صروح المدينة وأجمل مبانيها، الى حد إطلاق بعض أسماء الإغتراب على شوارعها. إلا أن الموجة الجديدة من هجرة الشباب تقترن هذه المرة مع توصيات الأهل بعدم عودة أبنائهم، ما يمكن أن يؤسس لفراغ كبير قد يتم ملؤه من قبل من يطلق عليهم البعض إسم “الغرباء”.
عرفت زحلة دائماً إستقلالية في إدارة شؤونها الداخلية، وكانت من أولى المدن التي إتخذ أهلها القرارات بالمشورة، وشكل التعاون في ما بينهم وإتحادهم، قوتهم التي سمحت لهم بالتغلب على كل الصعوبات، فكان للمدينة علمها الخاص ونشيدها، وتقدمت على مدن لبنان بكهربائها ومياهها التي جرّتها من البردوني وعدة ينابيع أخرى. وسبقت في عصرنا الحالي مدن لبنان الكبرى بمعملها لفرز النفايات الصلبة، وحافظت على هذا المعمل بالرغم من كل الصعوبات المالية واللوجستية التي تعيقه. كما أنها تكاد تحتضن محطة تكرير مياه الصرف الصحي شبه الوحيدة الشغالة على ضفاف الحوض الاعلى لنهر الليطاني.
هذه إمتيازات جعلت من زحلة لفترة طويلة مدينة نظيفة، ما سمح لأهلها بأن يطمحوا لإنماء إقتصادي وسياحي مواز، الى ان إنكشف العجز المالي الذي يقع فيه لبنان منذ سنة 2019، فحوصرت زحلة وبلديتها كما جميع مدن لبنان في معضلة الهوة الكبيرة التي خلّفها إرتفاع سعر الدولار وعدم إستقراره.
في قصر بلدية زحلة، حيث استقبل رئيس وأعضاء المجلس البلدي قبل فترة وفداً فرنسياً من مقاطعة سان ماريتين، إطلع على آخر التحديثات في القصر الوحيد بلبنان الذي بني ليكون داراً حكومية بعهد المتصرفية، أخبر رئيس البلدية زواره أنهم قد يعتقدون، نظراً الى ما شاهدوه، “أننا هنا في بلدية غنية ولكننا عملياً لم نعد كذلك، وميزانيتنا التي كانت قيمتها توازي الـ 30 مليون دولار صارت حالياً لا تتعدى الثلاثة ملايين دولار بسبب تدهور قيمة الليرة اللبنانية”.
إنعكس التدهور في قيمة الليرة اللبنانية على الكثير من المشاريع التي كانت تخطط لها البلدية وكان يفترض أن تظهر في سنة 2021. وأبرز هذه المشاريع توسيع المنطقة السياحية الذي تأجل لولاية أخرى، ومشروع مداخل زحلة الذي تراجع عنه الملتزم بعد تعهده، الى توقف العمل بالطريق التي وعدت بها البلدية لربط زحلة مباشرة بجديتا والتخفيف من المعاناة اليومية لقاصدي المدينة على طرقات تعلبايا وسعدنايل، التي للمناسبة كانت هذه السنة سنة إقفالها وعرقلتها أمام المواطنين بإمتياز.
ليست هذه المشاريع الوحيدة التي تعرقلت. في لقاءاته الخاصة والعامة يأسف رئيس البلدية أسعد زغيب أيضاً لكون المناقصات الموجهة لتلزيم المشاريع لا تجد حماساً لدى المقاولين بسبب الواقع المالي والروتين الإداري الذي لا يضمن للمقاول حقه نظراً لعدم إستقرار سعر الليرة.
ويترك هذا الواقع المالي إرتياباً لدى الزحليين من العودة بالزمن الى الوراء، في ظل واقع إقتصادي وإجتماعي يقبض على مفاصل حياتهم، ويلزمهم التخلي عن كثير من الخدمات التي إعتبروها سابقاً من الاساسيات.
إحدى تداعيات هذا الواقع لاحت هذا العام في تميز زحلة بكهربائها. فالشركة التي بنت صيتها على توفير الطاقة 24 ساعة متواصلة، وبسعر أقل بـ 40 بالمئة من كلفة تأمينها في باقي المناطق، وقعت هذه السنة بمواجهة مع الزحليين، بعد التقنين الحاد الذي لجأت اليه في بعض أشهر السنة، ووصول الفواتير إلى مبالغ تتخطى إمكانيات الكثير من المشتركين بسبب ارتفاع ساعات التغذية وغلاء المازوت.
ويبدو ان هذا الملف سيبقى مرشحاً للتجاذبات في سنة 2022، خصوصاً أن عقد الشركة الممدد سينتهي بنهاية السنة المقبلة، وفيما الدولة تعيش في حالة تعطيل شامل، لم يتم حتى الآن إعداد دفاتر الشروط التي تسمح بإجراء مناقصات جديدة لتلزيم الشركة، سواء لإدارتها الحالية أو أي إدارة أخرى قد تفوز بالمناقصة، ما يطرح الأمر مجدداً، إما أمام التمديد للإدارة الحالية من دون معرفة ما إذا كانت إدارة الشركة الحالية راغبة به بالاساس، أو أمام فراغ يضع المؤسسة بعهدة مؤسسة كهرباء لبنان، ما يعني بالنسبة للزحليين الخراب.
ومشكلة الكهرباء إنعكست على الكثير من القطاعات الأخرى الموجودة في المدينة، وأبرزها المياه، فمؤسسة مياه البقاع عجزت عن تسديد الفواتير الباهظة وهو ما كشف التهالك الموجود ايضاً داخل المؤسسة، والذي يرتبط في قسم منه بالواقع الحالي، وكاد يؤثر على محطة إدارة مياه الصرف الصحي لولا بذل الجهات الإيطالية الممولة للمشروع جهوداً حثيثة لتأمين خط تغذية مباشر له من مؤسسة كهرباء لبنان.
أما محطة الفرز التي لا تزال قبلة أنظار الوفود الداخلية والخارجية، فهي تقع أيضاً تحت ضغط تدهور القدرة الشرائية لليرة اللبنانية، والتي ستدفع الى إهمال الكثير من معداته ما لم يتوفر تمويل يسمح بالحفاظ على جودة العمل المقدم، خصوصاً أن الدولة اللبنانية التي تشجع سياسة المطامر، تتخلف عن سداد مستحقات المتعهدين وفقاً لما إلتزمته منذ سنة 2018.
إذاً هي سنة تراجعية بإمتياز لإمتيازات زحلة في خدماتها، فيما لم تنجح زحلة في إيصال صوتها عبر الشارع الذي عرف أكثر من محاولة تغييرية، وقد يعود السبب الرئيسي في ذلك الى أن الزحليين يميلون للإحتكام الى مؤسسات الدولة، هذه المؤسسات التي يجدونها تنهار يومياً، مخلفة فراغاً كبيراً بدأ ينعكس على الكثير من الخدمات، التي يعتقد أبناء المدينة أن بإمكان زحلة أن تستقل بتوفيرها متى طبقت اللامركزية الإدارية.
جزء من هذه اللامركزية تترجمها زحلة عملياً، من خلال جمعياتها الأهلية، التي لفت حضورها القوي وسط زوبعة الأزمة القائمة، فاتّحد بعضها ليوحد جهوده بدعم من بلدية زحلة وجهات مانحة، سعياً وراء مقومات صمود الزحليين، وخصوصاً من خلال حسن إدارة توزيع المساعدات على الأكثر ضعفاً في المدينة، من خلال هبات ومساعدات شملت مختلف القطاعات الطبية والإنسانية والإجتماعية وحتى التربوية. وكان للإغتراب الزحلي أيضاً دور لافت في تحمل جزء من هموم المقيمين في المدينة، ما جعل من زحلة مدينة تمتد حدودها الى اقاصي بلدان العالم، وكانت تلك بارقة الأمل الوحيدة التي أكدت بأن الزحليين لا يمكنهم إلا ان يتضافروا في الشدائد، ليخرجوا منها بأقل الاضرار الممكنة.