في كل انتخابات نيابية، تكتسب معركة زحلة أبعاداً شخصية واجتماعية أكثر من أبعادها السياسية والطائفية والجغرافية. أبعاد ثابتة في محيط متحول، تغيرت فيه العددية الديموغرافية في عاصمة الكثلكة وموازين العائلات الحاكمة، وانهارت بينهما معادلة «زحلة مقبرة الأحزاب»
لم ينتظر شارل سابا نتائج الانتخابات النيابية المقبلة، ليستبدل زحلة بباريس. إلى العاصمة الفرنسية، عزم العضو المستقيل من بلدية زحلة – معلقة وتعنايل، مع عائلته، نهاية الشهر الماضي، باحثاً عن فرصة عمل تمنحه الاستقرار. مسبقاً، استقرأ نتائج انتخابات «لن تغير واقع دار السلام الحالي لأن هذه الطينة من هذه العجينة». قبل ست سنوات، لم يكن سابا بهذا اليأس. ترشّح للانتخابات البلدية ضمن لائحة الأحزاب. للمرة الأولى، انتقلت البلدية من حكم العائلات إلى «حكم» التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والكتائب. بعد سنوات قليلة، استقال من البلدية ومن حزبه الذي عينه رئيساً لإقليم زحلة الكتائبي بعدما اكتشف بأن «أداء الأحزاب لم يكن أكثر تطوراً من الزعامات الفردية». إذ إن قياداتها «تمارس الإقطاع المناطقي أيضاً كما فعل آل سكاف وآل حمادة وحلفائهما على مستوى البقاع قبل الحرب الأهلية. ورغم توالي زحلاويين، عونيين وكتائبيين وقواتيين، على النيابة والوزارة منذ عام 2005، لم تستفد المنطقة بمشروع هام، بدءاً من إقرار خطة النقل العام وإنجاز الأوتوستراد العربي وتنظيف نهر البردوني وبناء المبنى الجامعي الموحد في حوش الأمراء (…) إلى جمع الملاهي الليلية في موقع واحد تجنباً للضجيج والزحمة والإشكالات».
مع ذلك، تملك نيابة زحلة وقضائها سحراً خاصاً يدفع الأحزاب الوازنة، كما دفع العائلات سابقاً، إلى المنازلة الشرسة. فهي الدائرة الانتخابية الوحيدة التي تشهد على توازن «بلوكات» شيعية – مسيحية – سنية. ومن إفرازات ذلك التوازن، تلاقي الأضداد، كحزب الله والقوات والمستقبل، في أطر موحدة مثل لجنة التنسيق المحلية التي يرأسها مطران زحلة والفرزل وتوابعهما. خصوصية عاصمة الكثلكة متعددة الأبعاد، أدركتها القوى التي دخلت حديثاً إلى مطبخ قرارها. حزب الله وحركة أمل خاضا انتخابات 2005 بمرشح غير حزبي (حسن يعقوب) بالتحالف مع رئيس الكتلة الشعبية إيلي سكاف، قبل أن «يقتنص» تيار المستقبل المقعد الشيعي بعقاب صقر. وبدءاً من دورة 2018، عمد الحزب إلى «تحزيب» المقعد لضمان الفوز به. أما سنياً، فلا يزال المستقبل ملتزماً ترشيح أبناء العائلات. وفي مقابل تفهم القوى الطارئة، لا يزال كثير من الزحليين أسرى موروثات عائلية واجتماعية وطائفية، تزيد الشرخ بين أبنائها في كل انتخابات. لكن العودة إلى أصل زعامة بعض العائلات وظروف استحداث المقاعد النيابية السبعة تباعاً، يوحي بأن المدينة وجاراتها تتعارك فوق أرض رخوة.
قبل نشوء دولة لبنان الكبير، ألحقت كاثوليكية زحلة بمتصرفية جبل لبنان، فيما البلدات المحيطة بها أتبعت بولاية دمشق. انتخابات مجلس المندوبين الأولى عام 1861، شكّلت التاريخ التأسيسي للعمل السياسي في المدينة. القانون الأساسي كرّس زعامة العائلات الكاثوليكية السبعة الكبرى. وتركز التنافس بين عائلتي أبو خاطر وبريدي، وانتهى إلى تعيين عبدالله أبو خاطر أول عضو في مجلس إدارة المتصرفية بدعم من الأسقف الكاثوليكي. العائلات السبع (أبو خاطر وغره وبريدي ومسلم ومعلوف وجحا والحاج شاهين)، توالت على تمثيل المدينة سياسياً، بتأثير رئيسي دائم لمطران زحلة. قبل انتخابات المتصرفية، عرفت زحلة انتخابات البلدية التي تأسست عام 1711. العائلات نفسها شكلت مجلس شورى في ما بينها كنوع من الحكم المحلي. للمفارقة، انتهى نفوذ تلك العائلات مع بداية الانتداب الفرنسي. مندوباها في مجلس المتصرفية، من آل بريدي وآل أبو خاطر، أعلنا ولاءهما لحكومة الملك فيصل في دمشق التزاماً بالعلاقات التجارية والاجتماعية التي تحكم عاصمة البقاع بجارتها السورية. سريعاً جاء الانتقام الفرنسي. من «أوتيل القادري الكبير»، عام 1920، أعلن الجنرال غورو ضم الأقضية الأربعة للبنان، وأسس لزعامة الماروني موسى نمّور في وجه بريدي وأبو خاطر بعد إبعادهما عن دائرة القرار. نمّور نفسه عين عضواً في اللجنة التأسيسية لوضع الدستور اللبناني وأول رئيس لمجلس النواب. لم يرغب الفرنسيون بإقصاء كاثوليك زحلة في عرينهم وتقوية الموارنة الأقل عدداً. جهات محلية لفتتهم إلى الياس طعمة سكاف من خارج نادي العائلات السبع. أنشأوا زعامته فوق أملاك آل سرسق الشاسعة في عمّيق (البقاع الغربي) بعدما سجلوها باسمه.
لم يجذب سكاف الذي منحه الفرنسيون لقب (بك) مسيحيي زحلة والجوار فقط. بل إن غالبية أهل المنطقة، من مسيحيين وسنة وشيعة، صاروا من أتباعه بسبب عملهم فلاحين في أراضيه. وبعد دمج زحلة بالبقاعين الغربي والشمالي، في بعض الدورات الانتخابية، تحوّل سكاف، ثم نجله جوزيف، مرجعية خدماتية لأبناء البقاع، لا سيما بعد تحالف آل سكاف مع صبري حمادة وآل حيدر من جهة وآل القادري وقزعون والميس من جهة أخرى.
بصعوبة بالغة، استطاعت الأحزاب العقائدية خرق شعبية آل سكاف. الأستاذ الجامعي أنطوان ساروفيم المتخصص في الشأن الانتخابي لزحلة، يعيد السبب إلى «نفوذ العائلات الطائفية الطابع التي التزم أفرادها باتجاهاتها، وطبائع الزحلاويين التي لا تتقبل الانضباط في حزب أو الالتزام بعقيدة». منذ بداية الثلاثينيات، التزم عدد قليل بالحزبين الشيوعي والقومي خصوصاً من النخب والمثقفين، أبرزهم الشاعر سعيد عقل الذي تبنى الفكر القومي لفترة. حتى الأحزاب المسيحية التي نشأت لاحقاً، لم تملك تأثيراً وازناً. الكتائب خرق «بالمفرق» حصن آل السكاف. عام 1951، كان الزحلي جان سكاف أول وزير في تاريخ الحزب. وفي انتخابات بلدية زحلة عام 1963، فاز إبراهيم حبيقة، وفي الانتخابات النيابية عام 1968، فاز جورج عقل. محاولات تأسيس زعامات وأطر سياسية باءت بالفشل. فالزحلاوي لا يهتم بالشهادات والبرامج الانتخابية بقدر ما يعنيه السلوك الشخصي. في هذا الإطار، يستذكر ساروفيم تجربة جوزيف أبو خاطر، سفير لبنان الأسبق في مصر، الذي نجح في الانتخابات مدعوماً بأصوات السنة الذين اشتمّوا فيه رائحة جمال عبد الناصر. «فرض سعادته بروتوكولاً خاصاً للاستقبالات والزيارات والمراجعات. لفظته طبيعة الزحليين المعتادين على الدخول ساعة يشاؤون إلى غرفة نوم بكاوات آل سكاف الذين نجحوا بتحلق الأهالي حولهم كرد فعل على العائلات الذوات. وفي النتيجة، تلاقى الفكر التقليدي مع رفض السكافيين نمو الأحزاب المسيحية أو العقائدية على حسابهم».
أسقطت زحلة أبو خاطر كما أسقطت جورج عون في انتخابات 1968 و1972. المحيط الملتصق بالموروثات الاجتماعية والدينية، لم يتقبل أفكار أستاذ الفلسفة الذي عاد من باريس ليؤسس حركة سياسية ثقافية تحولت لاحقاً إلى تجمع زحلة العام. وكان أول سياسي «يقدم برنامجاً انتخابياً في تاريخ زحلة»، بحسب ساروفيم. زحلة التي لم تتقبل جورج، انتخبت نجله سليم نائباً للمرة الأولى عام 2005 ضمن لائحة إيلي جوزف سكاف. زحلة تغيرت كثيراً من زمن جورج إلى زمن سليم. الأخير شهد حصار زحلة بين 1981 و1984 وسيطرة ميليشيات الكتائب والقوات على الميدان والمزاج الشعبي في إطار التقسيم المناطقي والطائفي الذي فرضته الحرب الأهلية. ومنذ نهاية الثمانينيات، ناصر ميشال عون وتعرض للتضييق خلال فترة الوجود السوري حينما شكل مع آخرين حركة تغييرية استوحى أفكارها من والده. حراك السنوات الطويلة أثمر فور خروج السوريين وتنامي«التسونامي» العوني عام 2005.
أسقطت الحرب الأهلية ونتائجها واستقرار القيادة السورية في لبنان بين عنجر وزحلة وشتورة ثوابت رئيسية: أولها حصرية مرجعية آل سكاف وثانيها، معادلة زحلة «مقبرة الأحزاب»، وثالثها محورية المدينة اقتصادياً وخدماتياً. يقول ساروفيم الذي لم يغادر مدينته إن «المرحلة الفاصلة بين زمني زحلة كانت عام 1975. قبلها، كانت المدينة مزدهرة بسبب انحصار الخدمات التربوية والاستشفائية والتجارية والسياحية والمالية فيها»، إضافة إلى التحالف بين مرجعية المدينة السكافية ومرجعيات السنة والشيعة في البقاع كآل حمادة وآل الميس. لكن الفرز الطائفي والتهجير اللذين فرضتهما الحرب في المنطقة، فضلاً عن حصار زحلة والتطور الديموغرافي السني والشيعي والوجود الفلسطيني في القضاء «خلقت شرخاً بين المدينة ومحيطها وأدت إلى إعادة انتشار اقتصادي وخدماتي وظهور أسواق ومستشفيات ومصارف ومؤسسات تعليمية ومنتزهات في شتورة وبر الياس والفرزل. ومن أبرز الظواهر، تمركز محال الصيرفة في ساحة شتورة في الطريق إلى دمشق والبلاد العربية وانتشار المصانع في سهول البقاع الأوسط».
لم تتبدّد حساسية الزحليّين تجاه المرشحين المسيحيين من القضاء بسبب تمسّكهم بتمثيل المدينة بأبنائها
التحجيم السكافي انعكس على السياسة في ظل فتور في العلاقة بين وريث الكتلة الشعبية إيلي سكاف وغازي كنعان الذي دعم ظهور زعامات محلية جديدة في زحلة كإلياس الهراوي ونقولا فتوش، وخارجها كإيلي الفرزلي. العنصر الثابت في السياسة الزحلية، العلاقات الشخصية. حتى إن بعض المقاعد النيابية استحدثت كرمى لتلك العلاقات مثل مقعد الأرمن الأرثوذكس الذي أضيف بعد مؤتمر الطائف، من ضمن المقاعد المسيحية العشرة. استحداث المقعد لا يعكس حضوراً ديموغرافياً لأرمن زحلة وعنجر وجلالا الذين هاجر 80 في المئة منهم خلال الحرب. فيما غالبية من بقي، انضوى في الكتائب والقوات والتيار العوني لاحقاً أكثر من انتسابه إلى الطاشناق والهنشاك. ومن العناصر الطارئة على انتخابات زحلة، لم تعد المعركة الأشد على المقعدين الكاثوليكيين فقط. الأحزاب المسيحية أعطت حيثية للمقعدين الأرثوذكسيين والمقعد الماروني، كما فعلت الأحزاب السنية والشيعية مع مقعديها. مع ذلك، لم تتبدد حساسية الزحليين تجاه المرشحين المسيحيين من القضاء بسبب تمسكهم بتمثيل المدينة بأبنائها.
العائلات «راجعة»؟
منذ انتخابات 2005، تبدلت آلية تركيب اللوائح. الأحزاب ورثت العائلات التي صارت تلوذ بحماها. لكن ثمة من ينذر بعودة العائلية بعد تململ كثر من تجربة الأحزاب. عند انطلاق ورشة انتخابات 2022، لم تكن وريثة الكتلة الشعبية ميريام سكاف عنصراً رئيسياً في المشهد الذي سيطر عليه حزب الله والقوات والتيار الوطني الحر و«الزعيم» الجديد ميشال ضاهر. إذ كانت لا تزال تلملم ذيول خساراتها المتتالية من انتخابات بلدية 2016 ونيابية 2009 و2018. آخر فوز لزوجها قبل وفاته، كان عام 2005 على متن «تسونامي» العونيين والتحالف مع حزب الله. في انتخابات 2022، تستثمر جهات عدة نفور البعض من الحزب لاعتبارات مذهبية ولموروثات الزمن السوري. ميريام استردت بعض من تسرب من الكتلة إلى الأحزاب، وتحالفت مع المتمول محمد حمود من مجدل عنجر، على أمل أن يجير لها كتلة وازنة من حوالي 56 ألف ناخب سني يشكلون القوة الناخبة الأكبر في القضاء، لا سيما في ظل اعتكاف تيار المستقبل. في تقييمه للحملات الانتخابية، يشير ساروفيم إلى أن «معارك كافة الأحزاب تستثمر المعيار العائلي وليس البعد السياسي. مرشحو الأحزاب لا ينجحون إلا إذا تبنتهم العائلات. ما يجعل الغلبة في اللوائح لها مع الحفاظ على كوتا للحزبيين».