ثمة صفات كثيرة تلصق بالسياسيين في المناسبات المختلفة، لكن نادراً ما يكون الوصف الرئيسيّ الشائع: آدمي. فـ«الآدمي»، التي تُظلل الصورة الأخيرة للوزير السابق الياس سكاف تبين أكثر ما يميّزه عن سائر السياسيين.
فالآدمي ينتمي إلى ناد من العائلات السياسية تلصق بها اتهامات رجعيّة كثيرة، إلا أن مقارنتها بالعائلات السياسية الجديدة تبين بيع أولئك أرزاقهم وصرفهم أموالهم لتحصين زعاماتهم، فيما تشتري الزعامات المستجدة لأصحابها القصور والأراضي والشركات، علماً بأن كثيرين التفتوا، أول من أمس فقط، غداة سماعهم خبر وفاة سكاف، إلى أهمية هذه الصفة وندرتها. وكان واضحاً في زحلة أمس أن الحزن على رحيل سكاف شخصي؛ أرادوا لابن جوزف سكاف أن يكون زعيماً وخصماً سياسياً ووزيراً ونائباً وغيره، لكنه بقي دائماً شاباً لطيفاً يفضّل أخبار المدينة والاحتفالات العالمية والتكنولوجيا على أخبار السياسيين. يفضّل البردوني على وسط بيروت، وعمّيق على الرابية، والتقاط صور المواطنين بهاتفه على إلقاء الخطابات السياسية.
حرصت الاستخبارات السورية على إبقاء أبواب مقفلة في وجه سكاف في زحلة
دخل سكاف المعترك السياسي عام 1992، بعد عام واحد من وفاة والده النائب والوزير السابق جوزف سكاف، في ظروف أقل ما يقال عنها إنها صعبة جداً بحكم: 1ــ إنهاك الحرب للبيوتات السياسية. 2ــ المقاطعة المسيحية العارمة للانتخابات. 3ــ سعي الرئيس الياس الهراوي لبناء نفوذ جدي في زحلة. 4ــ حرص الاستخبارات السورية على ألا يشعر سكاف، ولو ليوم واحد، أن الساحة فارغة أمامه عبر تفريخ منافسين يوميين له. فصديقه رئيس تيار المردة سليمان فرنجية كان يشبهه في تلك المرحلة في طراوة عظامهما السياسية، إلا أن ظروف فرنجية في زغرتا كانت غير ظروف سكاف في زحلة، والرئيس عمر كرامي في طرابلس، والنائب طلال أرسلان في عاليه. والإنصاف يقتضي عدم مقارنة زعامة سكاف اليوم بزعامة والده، بل مقارنتها بالعائلات السياسية التقليدية التي أقفلت أو تكاد تقفل أبوابها في كسروان والمتن وجبيل وجزين، علماً بأن جزءاً مؤثراً وأساسياً من زعامة سكاف كان يرتبط بنفوذه الكاثوليكي الذي بقيت مقاليده في قبضته رغم خسارته عام 2009 الانتخابات النيابية. فحفاظ الوزير ميشال فرعون على مقعده النيابي وتنقله بين مجموعة وزارات لم يؤدّيا إلى تعديل الانطباع العام بأن سكاف هو الزعيم الكاثوليكي الأول والأخير، ولا علاقة سكاف المتوترة بمطران زحلة عصام درويش أثرت في هذا الأمر. إلا أن المشكلة بالنسبة إلى سكاف تمثلت في تراجع النفوذ الكاثوليكي المطلق (سابقاً) داخل زحلة، وتراجع النفوذ الزحلي داخل دائرة البقاع الأوسط. وتشير المصادر الزحلية في هذا السياق إلى «اقتناع كاثوليكيّ راسخ في المدينة بأن نواب المناطق الأخرى الكاثوليك أولويتهم لمناطقهم، فيما أولوية نواب زحلة الحزبيين الكاثوليك هي لأحزابهم ومصالحهم الخاصة»، الأمر الذي أبقى الزعامة الكاثوليكية عند سكاف. ولاحقاً نجح وزير الزراعة والصناعة السابق في تكوين رأي عام في المدينة يدافع عن سكاف لمجرد وضعه بتصرف المدينة كل ما يحصله من خدمات أو مساعدات، فيما يضع النواب الحزبيون جهودهم في تصرّف الحزب الذي تبدأ أولوياته في بشري وتمرّ بالكورة والبترون وجبيل وكسروان والمتن وبعبدا لتنتهي في زحلة أو جزين أو الشوف. ولا شك في أن فوز سكاف الساحق في انتخابات زحلة البلدية كان الخطوة العلنية الأولى باتجاه إعادة التوازن السياسي نسبياً إلى المدينة، الأمر الذي استتبع بانشقاق النائب نقولا فتوش عن قوى 14 آذار، وكان يفترض في حال حصول الانتخابات أن يتوّج بمصالحة انتخابية بين جميع المكونات الزحلية المتضررة من أن يكون القرار الزحلي في معراب. ونظراً إلى حساسية المدينة، غدت محطة رئيسية في صولات السفير السعودي وجولاته. إلا أن وفاة الياس سكاف ستترك فراغاً كبيراً على هذا الصعيد وتخلط أوراق المدينة، في ظل اجتهاد القوات اللبنانية منذ أشهر لاختراق حالة الكتلة الشعبية واستقطاب كل من يمكن استقطابهم، فيما تواصل قوى أخرى مهاجمة هؤلاء وعدم بذل أي جهد في الحد الأدنى لاستيعابهم. ولم تعلن قوى 8 آذار والتيار الوطني الحر منذ سنوات حالة طوارئ في هذه المدينة التي تعتبرها القوات اللبنانية امتداداً سياسياً لنفوذها في بشري، وتركز جهدها منذ سنوات على تحويلها إلى بشري أخرى دون أيّ ردّ فعل جدي من خصوم القوات المفترضين، إلا ترخيص المعامل لآل فتوش وتبنّي طروحات فتوش الدستورية. والتحدي الرئيسي اليوم بالنسبة إلى الكتلة الشعبية هو حفاظها على تماسك عائلاتها أطول وقت ممكن. وربما كان استعجال أحد الإعلاميين المقرّبين من عائلة سكاف إلى إذاعة ما وصفه بأنه وصية سكاف السياسية، بأن تؤول الزعامة إلى زوجته من بعده، بعيد ساعات قليلة من إعلان وفاته، أمراً يمكن تجنبه، حاله من حال الأخبار المتداولة بكثافة منذ شاع خبر مرض سكاف عن أكثر من قريب يأمل خوض غمار السياسة من بعده.
قبل أكثر من عام، في تموز 2014، زار سكاف زحلة آخر مرة، مستفيداً من وقت مستقطع صغير بين علاج وآخر. واستقبل يومها باحتفال شعبي عارم أبكاه محطة تلو أخرى، مبيّناً حجم محبة المدينة وتقديرها لهذا الرجل. وهو سيستقبل الأربعاء، بعد غد، في حزن شعبيّ يرجّح أن يقارب حجمه التشييع الزحلي للشاعر سعيد عقل. فالرجل المودَّع كان صديقاً لكثيرين، ولم يكن في المقابل عدواً لأحد، وقلة قليلة من الزحليين لها مآخذ عليه.