IMLebanon

سعر الكيلو إلى 200 ألف ليرة ومُنتِجوها لن يرفعوا العشرة

 

البوظة الزحلاوية صامدة بنكهتها وتقاوم مع أسعارها الذوبان

 

 

تصارع بوظة البردوني الزحلاوية الشهيرة واحداً من أقسى الظروف التي يعبرها لبنان، منذ نشأة هذه الصناعة في بدايات القرن الماضي.

 

فبين انقطاع الكهرباء وتقنينها الذي فرض على زحلة مجدداً، غلاء أسعار المواد الأولية، ضعف الحركة السياحية، تضخم سعر الدولار وعدم استقراره، وتراجع القدرة الشرائية للمقيمين عموماً، كان يمكن لأرباب المصلحة أن «يرفعوا العشرة»، ويعتزلوا صناعة تشكل خصوصية تتخطى الحسابات التجارية بالنسبة للمدينة، ولكنهم قرروا بدلا من ذلك ان يتمسكوا بجودة صناعتها، كأمناء على واحدٍ من الأوجه التي جعلت من زحلة مدينة عضواً في شبكة الاونيسكو العالمية للمدن المتميزة بالأكل، مصرين على إستقبال الزبون مع ابتسامة لا تزال تعكس روحية الزحلاوي وكرمه.

 

إلا أن ذلك لا ينفي أن كلفة صناعة البوظة لم تخرج من تحت سيطرة أربابها. وقد قفز سعر الكيلو منها في بداية هذا الموسم الى 200 الف ليرة بالنسبة للبوظة الطليانية و250 الفاً بالنسبة للقشطة. وتقلب هذا السعر خلال الاسبوع الماضي بين 250 ألفاً و300 ألف، ليعود ويهبط فور تراجع سعر الدولار مجدداً الى مستوياته السابقة.

 

الرقم يبدو خيالياً بالنسبة للبناني الذي كان حتى صيف 2020 يشتري البوظة بـ 15 الى 30 ألف ليرة للكيلو. ولكنه لا يعود مستغرباً عندما يعدد وليد خلف، احد أصحاب اشهر المقاهي في البردوني مكونات هذا السعر. فالبوظة عربية صحيح، ولكن جزءاً كبيراً من مكوناتها مستورد من الخارج، وبالتالي يتأثر بأسعار الدولار المتقلبة، بدءاً من الحليب، الى السحلب، المسكة، ماء الزهر بالنسبة لصناعة القشطة، أو ما يعرف بالبوظة العربية. وطبعاً يضاف الى كل مكوناتها هذه الفستق الحلبي الذي يزينها. حيث يبلغ سعر الكيلو منه حالياً 21 دولاراً، على سعر صرف الدولار بالسوق الموازية.

 

أما بالنسبة لأنواع البوظة الطليانية المصنوعة بالطريقة اللبنانية، فهناك كما يعدد خلف الكاكاو المركز، الفاكهة الطبيعية، حليب البودرة، ومكونات أخرى مقوية للنكهة، والتي يجب أن تكون ذات جودة عالية لصناعة الفرق.

 

إلا ان الكلفة وفقاً لخلف لا تقتصر على المواد التي تدخل في صناعة البوظة مباشرة، وإنما هناك ايضا تكاليف المازوت والكهرباء التي باتت باهظة جداً، بالإضافة الى عامل التضخم المالي. في اختصار يقول خلف «كان سعر الكيلو 15 الفاً يوازي العشرة دولارات، ويتضمن أرباح المؤسسة التي تصل أحيانا الى 35 بالمئة أما الـ 200 ألف ليرة اليوم فلا توازي الـ 6 دولارات، مما يعني تراجع الأرباح التي يعوض عن جزء منها ضعف قيمة رواتب الموظفين واليد العاملة المستخدمة في تأمين الخدمة وفي الصناعة.

 

ولكن مهلا من يدفع 200 ألف ليرة من اللبنانيين ليأكل البوظة؟ بفرح يجيب خلف «الكثيرون»، وهذا ما يجعل أربابها في البردوني تحديدا أكثر تمسكاً بجودتها. ويفخر بأن «أنواع البوظة الاخرى متوفرة بسعر اقل، ولكن طبعاً بجودة لا تضاهي ما نقدمه في الوادي. وبالتالي من يريد أن يأكل يوظة بنوعية هي الأجود، لن يتردد في زيارة الوادي»، مشيرا الى «ان أي تغيير في النوعية سيغير هذه العلامة الفارقة في زحلة، ويجعل بوظتها تفقد زبائنها مباشرة».

 

ويشرح خلف بالمقابل «ان هناك عوامل اخرى مكونة لنكهة البوظة الزحلاوية. وابرزها القالب الذي تقدم فيه بمقاهي وادي البردوني، الذي يطيِّب النكهة أكثر. فكثيرون في زحلة وخارجها يحملون معهم عادة الكيلوات الى منازلهم، ولكن الكل يقرّ بأن طعم البوظة نفسها في مقاهي البردوني يختلف عن طعمها في المنازل».

 

وهذه ربما تكون خاصية يفوّتها الجيل الزحلاوي الجديد على نفسه، وهو لو تأثّر بالأجيال التي سبقته لما تخلّى عن عادة التردّد على الوادي إطلاقاً.

 

ويضيف خلف «نحن الوحيدون الذين لا نزال نضع إبريق المياه على الطاولة، مع أننا يمكن ان نستبدله بقوارير معبأة لنبدأ بربح مباشر، هذا إضافة الى ان تصريف الإنتاج اليومي في زحلة سريع جداً، وكلما كانت البوظة طازجة كلما كانت اجود».

 

ومن هنا يقول خلف «الناس تدفع 200 الف ليرة ثمن الشعور الذي يرافق أكل البوظة الزحلاوية، هذا الى كون جزء كبير من اللبنانيين يتلقون «الفريش دولار» من الخارج، وهذا ما يجعلهم يحافظون على مستوى معين من الرفاهية. والبوظة جزء من هذه الرفاهية خصوصا انها تعتبر كالفاكهة الموسمية، وهي غير متوفرة إلا في موسم الصيف».

 

بالطبع الظروف الصعبة التي تمر على صناعة البوظة ترافق مجمل القطاعات الأخرى الموجودة في وادي البردوني، والذي تكاد حركته السياحية حتى الآن تقتصر على أيام الآحاد وبشكل محدود. إلا انه وفقاً لخلف «فإن اللبنانيين مروا بظروف أصعب واجتازوها»، مذكراً بانه «حتى في عز حرب زحلة والحصار الذي رافقها لم يتوقف إنتاج البوظة. إنما الضغط الأكبر اليوم يتأتي من تقلب الاسعار الذي يجعل منتجيها يضعون يدهم على قلبهم في كل مرة إرتفع فيها سعر الدولار، خصوصا ان ذلك قد يجعلهم عاجزين عن تجديد المواد الاولية التي يحتاجونها. وهنا يتحدث خلف عن القلق الذي يرافقه وشريكه عندما يرتفع سعر صرف الدولار، لما سيتسبّب به ذلك من إبتلاع لكل أرباح الأسابيع الأولى من الموسم، ويعتبر أن الصمود يعكس صلابة اللبناني وعشقه للحياة، ودونهما لما تمكن احد من تحدي الصعوبات. متحدثاً أيضا عن المحبة والصدق اللذين يحليان الحياة ويجعلان لكل منتج طعماً اطيب وخصوصاً لبوظة زحلة.