Site icon IMLebanon

إسرائيل، الليطاني، المياه: شهية مفتوحة وأطماع دائمة!

 

 

من يقرأ كتاب « المتاهة اللبنانية ـ سياسة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل تجاه لبنان 1918- 1958» لمؤلفه رؤوفين ارليخ، يتبيّن له أنّ الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان لها جذورها في التاريخ القريب.

ويُعرّف ناشر الكتاب عن مضمونه بما يأتي «يطرح المؤلف في هذا الكتاب مواضيع عدة ومتشعبة يستعرض خلالها 40 عاماً من سياسة الحركة العسكرية الصهيونية في الجليل وجنوب لبنان والاتصالات السرّية وتمويل فئات وأشخاص في لبنان، وتفاصيل ترسيم حدود لبنان الكبير وفلسطين ومحاولات الاستيطان في سهل مرجعيون ومناطق أخرى من لبنان، كفصل سهل الحولة عن منطقة مرجعيون وشراء الأراضي من شبكة من العملاء والتجار والسماسرة، وطرد المواطنين اللبنانيّين والفلسطينيّين من أراضيهم، محادثات الهدنة مع لبنان وخفاياها…»، إلى أن ينتهي التعريف بإيراد الآتي: «… والمحاولات الحديثة لمنع أي تقارب سوري مع لبنان أو العراق، ومحاولات ضمّ المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني والاستفادة من الثروة المائية لرَي الأراضي التي استولى عليها اليهود، والدور الصهيوني في أحداث 1958، ومواضيع عديدة أخرى».

في هذا التعريف مجموعة من العناوين المستقلة التي يصح فيها المثل السائر: «ما أشبه اليوم بالبارحة». لا تزال إسرائيل في حاجة إلى المياه العذبة غير المحلاة من البحر، وهذه موجودة في الليطاني، ومزارع شبعا، وسفوح جبل الشيخ الواقعة ضمن الحدود اللبنانية. وعلى رغم من الاتصالات التي سبقت اتفاق سايكس – بيكو، وواكبت مرحلة «طبخ» هذا الاتفاق البريطاني ـ الفرنسي الذي انكشف مضمونه إلى العلن مع وضع الحرب الكونية الأولى أوزارها، لم يتمكن آباء الحركة الصهيونية الذين أسسوا لولادة دولة إسرائيل كياناً غاصباً في قلب منطقة الشرق الأوسط من تعديل الحدود الدولية للبنان التي رُسمت في السابع من آذار 1923 والتي حدّدت 38 نقطة فصل بين لبنان وفلسطين المحتلة، ونقطة الفصل 39 على الحدود المشتركة اللبنانية ـ الفلسطينية ـ السورية الممتدة من الناقورة إلى رأس الحمّة السورية. فالظروف الدولية لم تسمح لهم بتحقيق ما رموا إليه بسبب معارضة الفرنسيّين للتعديل، وخصوصاً ضمّ الليطاني إلى مستوطنات (مستعمرات) الشمال، وفتور المسؤولين البريطانيّين الداعمين الرئيسيّين للحركة الصهيونية، لرغبتهم في عدم الصدام مع باريس مخافة عرقلتها لمطالب لندن في مناطق أخرى، وذلك من قبيل المراعاة المشتركة لمصالح كل طرف، وتجاوز ما أمكن من التباينات. وكان حاييم وايزمان يبرر حماسته لضمّ الليطاني بحاجة إسرائيل إلى المياه وأنّ لدى لبنان ما يكفي من المياه للشفة والري. ومن دون الخوض في تفاصيل ما يعنيه الليطاني من أهمية إستراتيجية للدولة العبرية، والذي كان ممراً إلزامياً لكل الاحتلالات التي قامت بها. وإنّ هاجس حرمان لبنان من حقه في مياهه كان شغلها الشاغل. وعلى رغم من أنّ مشروع السفير الأميركي جونستون لـ«مخطط وادي الأردن الموحّد» منح لبنان 35 مليون متر مكعب من المياه، وهو دون حقه القانوني والواقعي بكثير، لم تسمح إسرائيل لهذا البلد في العام 1965 بالإفادة من هذه الكمية، فأقدمت على قصف المنشآت والمشاريع القائمة لتحويل مجريي الحاصباني والوزاني. وعلى كثرة الصعاب والمعوقات، أعاد لبنان العمل في محطة الوزاني في 16 تشرين الأول 2002، في احتفال حضره رئيس الجمهورية إميل لحود وتحدّث فيه رئيس المجلس النيابي نبيه بري، ولكن استثماره كان خجولاً لا يتعدّى الثلاثة ملايين متر مكعب. ولم تتوقف عدائية إسرائيل، فانتقمت لهذه الخطوة، فقصفت الحاصباني والوزاني في 6 شباط 2024.

 

هذه الاعتداءات، وسواها كقصف وإحراق اسطول الطائرات المدنية التابعة لشركة طيران الشرق الأوسط في العام 1968، وقصف الرادار في الباروك في السبعينيات، حصلت ولم يكن «حزب الله» قد أبصر النور إلّا بعد مضي ما يقارب الـ15 عاماً، ما يعني أنّ تل أبيب لا تريد للبنان أن يكون قوياً، متماسكاً، ذا إقتصاد قوي ومقتدر، ولا ترغب في رؤيته مزدهراً. وكانت ذرائعها المتمحورة حول الخطر الذي يمثله الكفاح المسلح الفلسطيني، هي اللافتة التي تلطت وراءها طويلاً لتبرير خرقها القانون الدولي، واستباحتها الدائمة لسيادة لبنان واستقلاله. واليوم تستمر إسرائيل في انتقامها المتفلت من أي ضوابط على رغم من وقف إطلاق النار، وقبول جميع الأطراف بتطبيق قرار الأمم المتحدة الرقم 1701، فتستغل الفرصة المعطاة لها للانسحاب من الأراضي التي احتلتها في الحرب الأخيرة داخل الجنوب حتى 27 كانون الثاني 2025، لتدمير ما تبقّى من منازل في بلدات وقرى الحافة الحدودية والمحاذية لها، وجرف البساتين، وإفساد تربتها وتسميمها، من دون أن تتمكن لجنة مراقبة تطبيق الاتفاق الذي تمّ التوصّل إليه، من حملها على الالتزام به. من هنا يمكن القول إنّ إسرائيل لم تكتف بالجرائم التي اقترفتها في لبنان، بل ستمضي في ممارسة البطش والتدمير كلما ارتأت ذلك تحت عنوان «ملاحقة المخربين واستئصالهم». وسيكون لهذا الأمر تداعيات أمنية وسياسية خطيرة على واقع الأرض في لبنان، وفي الجنوب والبقاع الغربي تحديداً. كما أنّ ذلك قد يُنتج توتراً سياسياً بين الأفرقاء نتيجة تباعد الآراء واختلافها من مسائل جوهرية تتصل بمستقبل العلاقة مع إسرائيل، وعدم الاتفاق على طرائق المعالجة. إنّ الممارسات الإسرائيلية في القرى المحتلة في الجنوب، واستمرارها بوتائر مختلفة، وتباين القراءات في شأنها، لن تساعد لبنان في المرحلة المقبلة على تثبيت استقراره، وتقرير طريقة الدخول إلى الحل الشامل.

 

إنّ كل ما تقدّم يحتّم سرعة انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتشكيل حكومة تكون ذات تمثيل واسع لاتخاذ قرارات لمواجهة هذا الواقع، وإقرار خطة تحرّك عاجلة لتدارك ما ينتظر لبنان من تهديد لا يحتاج إلى تفسير أو دليل، ليأتي الاتفاق على أي خطة تحرّك محصّناً بأوسع قاعدة تمثيلية، لعلّ وعسى أن تفتح أمامه أبواب استقرار طال انتظاره.