IMLebanon

المنطقة تتغيَّر والتبايُن الإيراني – الروسي يتظهّر

كثيرة هي النتائج التي أفضت إليها معركة استعادة تدمُر لمصلحة النظام السوري. وبغَضّ النظر عن «القطب المخفية» التي ساهمت في إنجاح العملية من خلال اختراق كوادر في تنظيم «داعش»، إمّا إغراءً أو بالتأثير عليهم، إلّا أنّ خروج التنظيم من هذه المدينة الأثرية سيفرض بلا شكّ خسارةَ معظم المساحة الصحراوية الممتدّة بالقرب منها بسبب استحالة البقاء فيها بلا إمدادات لوجستية كانت تدمُر تؤمّنها.

لكنّ الأهمّ بعد كلّ ما حدث، ما ظهرَ جليّاً في الموقفين الروسي والأميركي. فالمعركة التي شاركت فيها بشراسة المروحيات الروسية المعروفة بتفوّقها في حرب الشوارع، أثبتت أنّ قرار موسكو بسحب جزء من قواتها العسكرية إنّما لا يطاول جوهرَ التحالف والنظرة الاستراتيجية إلى النزاع القائم في سوريا، ولكنّه يُظهر تعارضاً في الرؤية إزاء مبدأ التسوية السياسية الذي تتمسّك به موسكو بالتفاهم مع واشنطن، ومبدأ التسوية العسكرية وفق قاعدة «غالب بالمطلق ومهزوم بالكامل» الذي يتبنّاه النظام السوري بالتفاهم مع جناح المحافظين في إيران وبطبيعة الحال «حزب الله».

والواضح أنّ روسيا، بمشاركتها الفاعلة، جدّدت تمسّكها والتزامها بترسيم «وتنظيف» منطقة نفوذ النظام، التي قد تليها معارك أخرى في مناطق أخرى، ولكن ضمن هذا المفهوم. أمّا الكلام عن الاستعداد للانطلاق من تدمر للسيطرة على دير الزور أو مناطق أخرى، فيبدو أنّه سيفتقد للدعم العسكري الروسي كون المروحيات الحربية الروسية غيرَ مؤهلة لتنفيذ هذه المهمة.

وجاء الكلام الروسي عن البحث الدائر بين روسيا وأميركا حول خطوات تنسيقية لتحرير الرقّة واضحاً في هذا الإطار. أي البحث عن صيغة قتالية مختلفة لا تتّكل على الجيش السوري أو الصيغة الحاليّة.

وبالتالي فإنّ الكلام المبسّط الذي اعتبَر فيه البعض أنّ سَحب روسيا جزءاً من قواتها هو بداية نهاية مشوارها السوري لم يكن واقعياً، لا بل على العكس، فإنّ التوصيف الحقيقي لروسيا أنّ ما حصل كان بمثابة نهاية البداية، أو نهاية المقدمة، ولا تزال هنالك «فصول» كثيرة في الكتاب الروسي – السوري الدسم.

وعلى هامش معركة تدمر أيضاً لا بدّ من الإشارة الى الموقف الاميركي المرحّب، واضعاً ما حصَل في سياق إنضاج الحلّ السياسي لسوريا، وجاء موقف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الذي يجول في المنطقة في السياق نفسه.

وفي الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الاميركية جون كيري الى موسكو، اجتماع طويل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دام زهاء 4 ساعات بعدما كان مقرّراً في الأساس لساعة واحدة.

وهو ما يعني أنّ بحثاً طويلاً تناولَ كلّ الملفات العالقة بين البلدين، وقد قالها وزير الخارجية الروسية صراحةً بعد اللقاء. وبالتالي فإنّ مِن المنطقي الاستنتاج بأنّ صفقةً تمّ التفاهم عليها بين واشنطن وموسكو وكان المدخل اليها الملف السوري ولكن تحت سقف الحفاظ على المصالح الروسية في سوريا.

ووفقَ الأجندة الاميركية – الروسية فإنّ لقاء «جنيف – 3» الذي سيُعقد في 11 نيسان سيكون اجتماعاً مفصلياً. وفي نهاية حزيران تؤلّف حكومة جديدة على أن يوضع دستور جديد في منتصف آب المقبل. أمّا الانتخابات النيابية فموعدُها في بداية العام 2018، وذلك انسجاماً مع الصفحة الرابعة من القرار الدولي بإجراء هذه الانتخابات بعد 18 شهراً من وضع دستور جديد للبلاد.

ولا بدّ من الإقرار بأنّ هذه النقطة الاخيرة كانت إحدى المسائل الخلافية بين موسكو من جهة ودمشق وطهران من جهة اخرى، ولكنّه اختلاف تحت سقف التحالف المتين والصارم بين هذه الدول.

ذلك أنّ دمشق أصرّت على أولوية حصول انتخابات نيابية الآن، ما يعني إنتاج مجلس نيابي جديد يغلب عليه أنصار التركيبة الحالية، وبالتالي تكريس سلطة سياسية وتأليف حكومة لا مكان فيها للمعارضة. وبعبارة أخرى إنتاج سلطة تقوم على أساس غالب ومغلوب.

بينما تريد موسكو بالتفاهم مع واشنطن إجراءَ انتخابات نيابية تفرز مساحةً لفصائل المعارضة وتترجم لاحقاً في التشكيلة الحكومية التي ستكتسب صلاحيات من رئاسة الجمهورية لكن مع تأكيد معطيَين اثنين: الأوّل أنّ القرار الأمني والعسكري سيبقى في يد رئيس الجمهورية، إضافةً إلى تركيبة عسكرية وأمنية يكون عصبها النظام الحالي، والثاني أنّ الرئيس بشّار الأسد باقٍ في سدّة الرئاسة حتى نهاية ولايته، مع وجود توجّه للإقرار له بولاية إضافية في حال فازَ في الانتخابات المقبلة، وهذا ما هو مرجّح.

وتكشف مصادر ديبلوماسية فرنسية أنّ واشنطن نصَحت باريس بضرورة الإقلاع عن الدعوة إلى إزاحة الأسد، لأنها لم تعد واقعية، وبالتالي لا مانع من التواصل المتدرّج مع السلطات في دمشق. وقد تكون زيارة الوفد النيابي الفرنسي الى دمشق أولى الخطوات العلنية في هذا الإطار بعدما كان قد سبَقها تواصل أمني غير معلن.

لكنّ الحلّ السياسي لا يشكّل فقط أحد وجوه التباين بين روسيا وإيران، وإذا كان الأسد يتّجه لإبداء مرونة إزاء الموافقة على الحكومة الانتقالية وتأجيل الانتخابات النيابية إلى بداية العام 2018، إلّا أنّ مرشد الثورة في إيران السيّد علي خامنئي وجّه رسالة اعتراض جافّة حين قال إنّ المستقبل هو للصواريخ وليس للمفاوضات، وذلك بعد ساعات على رسالة موسكو من خلال دعوة الرئيس سعد الحريري لزيارتها حيث طاولَ البحث لبنان. وجاء ردّ البيت الأبيض سريعا على كلام خامنئي بوجوب استبعاد الأسد.

ذلك أنّ الصورة المستقبلية لسوريا تخضع لشدّ حبال حتى بين الحلفاء. واليوم أضحت أهداف «الكبار» خلال الحرب الدائرة أكثر وضوحاً، وحيث لم تكن القوى «الصغيرة» والمشاركة في القتال قادرةً على قراءة كلّ خلفيات ما يحصل وسط النار.

مثلاً هل تذكرون «عين العرب» أو كوباني، تلك المدينة الواقعة على الحدود مع تركيا والتي تضمّ زهاء 250 ألف مواطن كردي سوري والتي تعرّضَت لهجوم «داعش»؟ يومها تصدّرَت المدينة وسائل الأعلام وتمّ تصويرها وكأنّها ستالينغراد الحرب السورية، أي أنّ دحرَ «داعش» منها سيَفتح الباب أمام هزيمتها. في الحقيقة لم يكن لكوباني أيّ تأثير محوري أو أساسي على مسار الحرب الدائرة.

فمعارك حمص، وحتى حلب، إضافةً إلى اللاذقية وريف دمشق كانت، كلّها أهمّ بكثير بالنسبة إلى مسار الحرب، وعلى رغم ذلك تبوّأت كوباني صدرَ التغطيات الإعلامية وضَغطت واشنطن على تركيا بقوّة للسماح للقوات الكردية القادمة من كردستان العراق بعبور أراضيها للوصول إلى البلدة.

أهمّية كوباني الجغرافية تكمن في تواصُل الشريط الكردي من عفرين حتى شمال غرب حلب وعين العرب والمنطقة الممتدة من رأس العين حتى القامشلي. وعلى رغم إدراج حزب «الاتّحاد الديموقراطي»، وهو فرع من فروع حزب العمّال الكردستاني، على لائحة المنظمات الإرهابية في أميركا وأوروبا، إلّا أنّ ذلك لم يمنع واشنطن من رعاية الميليشيا التابعة له والسماح بتسليحها وإلزام تركيا رغماً عنها بتمرير عناصر الميليشيا الكردية الى عين العرب. والاستنتاج أنّ العواصم الغربية كانت ترسم مناطق النفوذ لتصبح جاهزة لدى الشروع في التسويات السياسية.

أخيراً، عقدت تركيا صفقة ناجحة مع الاتحاد الاوروبي حول وقفِ تدفّق النازحين السوريين وحصَلت في المقابل على ستة مليارات يورو. وما كانت أنقرة لتحصل على ذلك لولا موافقة اميركية من خلف الكواليس. ويُحكى عن موافقة تركيا لتوطين زهاء ثلاثة ملايين سوري في جنوب البلاد ليشكّلوا خطاً فاصلاً ما بين أكراد سوريا وأكراد تركيا.

لكنّ دعوة واشنطن عائلات جنودها إلى الخروج من جنوب تركيا يوحي وكأنّ الترتيبات الميدانية المطلوبة لا تزال تحتاج إلى بعض الدماء.

إيران المرتابة فتحَت خطوط التواصل مع غريمتها تركيا، والقاسم المشترك مصالح الدولتين، خصوصاً إزاء الأكراد، وهو انفتاح لم يسعِد كثيراً روسيا، أضِف إلى ذلك انفتاحاً آخر في اتجاه باكستان. وهذه المسائل تدخل أيضاً في إطار المناكفات بين الدولتين ولو تحت سقف التحالف.

وفي لبنان صدقَت الهيئات والمنظمات الدولية التي تحدّثت منذ اندلاع الحرب في سوريا عن أكثر من مليون نازح سوري. العدد تخطّى المليون، وكان مريباً تثبيت مخيّمات النازحين في مناطق حسّاسة ومدروسة بعناية، خصوصاً بين بعلبك والبقاع الأوسط، وبين البقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، وبين الضاحية والجنوب. من هنا مثلاً «أهمّية» الاشتباكات التي تدور بين حين وآخر في الناعمة.

وكان لافتاً أنّ الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون تهرّبَ من الالتزام بالعودة الإلزامية للنازحين السوريين، وبدا نافراً تكبّدُه مشقّة الانتقال إلى مخيّم نهر البارد الذي أعيدَ إعماره بمنازل من الباطون تؤكّد الإقامة الطويلة أو الدائمة، بدلاً من المنازل القابلة للتفكيك. وفي الوقت نفسه بدا صعباً عليه أن يزور بكركي، مفضّلاً لقاءَ البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي في بيروت.

ولا تبدو ذريعة استخدام عبارة «العودة الطوعية» مقنِعة بما فيه الكفاية بحجّة ضرورة بقاء النازحين السوريين في لبنان إلى حين إجراء الانتخابات النيابية في سوريا بعيداً من تأثير النظام.

أخطأَت كثيراً تلك القوى اللبنانية التي كانت مصطفّة في انقسام حاد، وخصوصاً المسيحية منها، في الموافقة، لا بل بالتشجيع على عبور النازحين واتّهمت يومها معارضي هذه الخطوة بالتبَعية للنظام السوري. أرشيف تلك المواقف لا يزال في متناول اليد، والغريب أنّ بعض هذه القوى خاضَ حرباً شرسة ضد الفلسطينيين، لكنّه كرّر الخطيئة مجدّداً مع السوريين. وحده حزب الكتائب شذّ يومها عن مواقف حلفائه رافضاً ومحذّراً