حدائق الحيوانات الصامدة نحو الإقفال… والجهات المعنية غائبة
لطالما شكلت حدائق الحيوانات في لبنان، والتي لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، معالم جذب سياحي للداخل والخارج على السواء. فهي في العادة مقصد تثقيفي لطلاب المدارس والجامعات وترفيهي للسياح والأطفال. لكل حيوان حكاية يتفاعل معها الزائر على طريقته، لكن أكثر ما يستقطب الاهتمام في هذه الحدائق هي الحيوانات المهددة بالانقراض، على غرار الدببة، خصوصاً أنها انقرضت تماماً في لبنان منذ منتصف القرن الماضي. الضباع أيضاً لها منزلتها لدى صغار السن لأنها تحاكي القصص التي يقرأون عنها في الكتب. فما حال هذه الحدائق اليوم؟
الحقيقة أن حدائق عدة أغلقت أبوابها ومنها تكافح للبقاء رغم الظروف الصعبة المحيطة بالبلد من كافة الجوانب والتي، على ما يبدو، لم تكتفِ باستهداف البشر وإنما امتدّت لتطاول الحيوانات أيضاً. الدب، مثلاً، الذي كانت تبلغ تكلفة إطعامه الشهرية حوالى مليون ومائتي ألف ليرة لبنانية، أصبحت اليوم حوالى 10ملايين ليرة. أما الطيور الجارحة، فقد ارتفعت تكلفة إطعامها الشهرية من مليونين وأربعمائة ألف ليرة إلى حوالى 9 ملايين. وفي ما يخص تكلفة الأعلاف الشهرية للحديقة فهي وصلت إلى حدود 14 مليون ليرة بعدما كانت تقارب المليون ونصف المليون.
ماذا عن قدرة الحدائق المتبقية على الصمود؟ سؤال نحاول الإجابة عنه من خلال جولة على ثلاث منها في مناطق لبنانية مختلفة.
في عاليه
وجهتنا الأولى كانت إلى عاليه، وتحديداً إلى حديقة Animal Encounter التي يعود عمرها إلى أكثر من ثلاثين سنة. هي جمعية أكثر منها حديقة، بحيث بدأت الفكرة مع صاحب المشروع، السيد منير أبي سعد، وزوجته اللذين ترجما شغفهما بالحيوانات إلى عمل تطوّعي يهدف إلى جمع الحيوانات البرية المصابة والاعتناء بها ومداواتها. أهداف الحديقة، بحسب أبي سعد، ثلاثة: الاعتناء بالحيوانات التي سبق أن تعرّضت لإصابات أو جروح، نشر الثقافة البيئية ضمن المجموعات التي تزور الحديقة، والعمل على تكاثر الحيوانات منعاً لانقراضها. تجد في الحديقة حصراً الحيوانات البرّية اللبنانية، من الضباع والذئاب والثعالب إلى الدببة والغزلان كما الطيور والنسور وغيرها، إضافة إلى حيوانات المزرعة كالماعز والغنم والدجاج. بالأغلب جميع تلك الحيوانات معرّضة لإصابات. تلك التي تتماثل للشفاء تُعاد إلى الطبيعة، أما التي لا تسمح حالتها بذلك، فتبقى تحت عناية خاصة شرط التزاوج وزيادة النسل.
الدخول إلى الحديقة مجاني. فهي لا تبغي الربح حيث أن جلّ ما تهدف إليه الحفاظ على الحياة البرية. إذ تعتمد شتاء على المجموعات التي تقصدها من مدارس وجامعات مختلفة بهدف التوعية البيئية، في حين أن عدد الزائرين يتضاعف صيفاً حكماً تزامناً مع موسم الاصطياف. عن مصادر التمويل في ظل مجانية الدخول، يشرح أبي سعد: «أكثرية العمل تطوّعي ونتّكل على المساعدات المادية التي يقدّمها بعض المعنيين بشؤون الحيوانات، كما على التبرّعات التي نجنيها من الزائرين والنشاطات الدورية التي نقوم بها كالتومبولا مثلاً. أما الأرض والمياه، فهي تقدمة من البلدية».
تقشّف
العمل داخل الجمعية لم يسلم من آثار الأزمة الاقتصادية التي ألقت بثقلها على جميع المجالات. فأسعار الطعام تضاعفت أكثر من عشر مرات. «كنا نشتري العلف بسعر 600,000 ليرة لبنانية لكل طن ونصف، أما اليوم فقد أصبح السعر 460 دولاراً أميركياً (ما يقارب 10 ملايين ليرة على سعر الصرف الحالي) للكمية نفسها. ثم أن كيلو «الرقاب» الذي كان سعره ألفي ليرة فارتفع إلى حوالى 15 ألف ليرة». هذا الارتفاع الجنوني بالأسعار فرض سياسة تقشّفية على إطعام الحيوانات أيضاً، إذ أصبحت تُقدّم لها كمية الأكل الضرورية لمجرّد إبقائها على قيد الحياة، بعد أن كانت تتناول الفاكهة والخضار والوجبات الخفيفة (Snacks) بين الوجبة والأخرى. هذا ولم نأتِ بعد على ذكر أسعار الدواء (في حال توافره) بحيث «أصبح راتبي وراتب زوجتي وأولادي مجتمعين غير كافية لتسديد مصاريف أكل الحيوانات»، يقول أبي سعد.
للمرة الأولى منذ ثلاثين سنة، يتخوّف صاحب الحديقة من أن يُضطرّ وزوجته لاتخاذ القرار الذي لم يجرؤا على التفكير به يوماً، ألا وهو إقفال الحديقة. ماذا عن مصير الحيوانات في تلك الحال؟ «البعض منها يمكن إعادته إلى الطبيعة، وقسم يمكن إرساله خارج لبنان، أما الحيوانات التي لا قدرة لديها على خدمة نفسها بنفسها – وهنا يتكلّم أبي سعد بغصة خانقة – فسوف نُضطرّ إلى إنهاء حياتها كي لا ندعها تموت ببطء». الجهات الرسمية غائبة كلياً فلا مساعدة من وزارة البيئة ولا مساندة من وزارة الزراعة وكأن الحيوان ليس جزءاً لا يتجزأ من النظام الإيكولوجي الطبيعي الذي يتوجّب السعي الدؤوب للحفاظ على مقوّماته. أبي سعد يختم حديثه معرباً أنه رغم وجود الكثير من الأمور الأخرى التي يجب الالتفات إليها، إلا أن خسارة الحيوان يترتب عليها خسارات رئيسية أخرى: «في الحرب هناك من يقاتل وهناك من يدافع وهناك من يداوي، ولكل منا دوره، فإذا فقدنا الثعالب والنسور، على سبيل المثال، كَثُرت الجرذان والفئران وتفشّت معها الأمراض».
حديقة فلاوي
من جبل لبنان ننتقل إلى بعلبك بقاعاً وتحديداً إلى حديقة فلاوي الواقعة قرب بلدتي إيعات وشليفا. الحديقة تأسست منذ خمس سنوات على يد السيد فريد سبلاني، مدير وصاحب المشروع، بالتعاون مع أحد أفراد العائلة. وأبصرت الفكرة النور حين أُهديا أسدين بسبب حبّهما المطلق للحيوانات. ثم كرّت السبحة ليعملا على جمع الحيوانات التي تحتاج إلى رعاية خاصة ومداواتها، وهكذا راح العدد يزداد شيئاً فشيئاً. في حديث مع السيد سبلاني أشار أنه «إضافة إلى حبّنا للحيوانات غير أن رغبتنا في جعل بلدة «فلاوي» القريبة من دير الأحمر منطقة معروفة ومقصودة سياحياً، دفعنا للتفكير بمشروع يساهم في إنمائها». الحديقة تحتوي على حيوانات أليفة ومفترسة يعيش كل منها في أقسام منفصلة. هناك قسم للحيوانات المفترسة (أسود، لبوات، نمور مخطّطة من سيبيريا، نمور عادية من البنغال وغيرها)، قسم للحيوانات الأليفة (مثل الأحصنة، الجمال، اللاما والغزلان)، ناهيك بالماعز والخراف القزمية من سويسرا والخراف والماعز من لبنان، إضافة إلى قسم خاص بالكلاب وآخر بالأفاعي وغيره بالطيور الجارحة كما الطيور الأليفة والقرود. إذاً، ثمة حيوانات مصدرها خارج لبنان، فكيف يمكن الاستمرار باستيرادها في ظل الأزمة الاقتصادية والقيود المصرفية؟ يجيب سبلاني: «بات من المستحيل الحصول على حيوان من خارج لبنان حالياً إذ إن التكلفة تبلغ حوالى 10 الآف دولار أميركي، ما يساوي 210 ملايين ليرة للحيوان الواحد».
من ناحية أخرى، وكما هو معلوم، فالحيوانات المفترسة تستهلك كميات طعام مضاعفة عن تلك الأليفة. لكن في ظل غلاء الأسعار، يلفت سبلاني أن التركيز ينصب على الدجاج مع انقطاع شبه تام عن اللحوم كون الدجاج أوفر. فسعر طن العلف ارتفع من 375 ألف ليرة إلى حوالى 8 ملايين ليرة (380 دولاراً أميركياً)، علماً أن حيوانات الحديقة تستهلك طناً من العلف كل عشرة أيام. «لقد خفّفنا كمية الطعام المقدّمة للحيوانات إلى حدها الأدنى، فأصبحنا نعطيها الكمية اللازمة فقط لإمدادها بالطاقة للاستمرار على قيد الحياة». في المقابل، ورغم أن سعر بطاقة الدخول ما زال على حاله (10 آلاف ليرة للبطاقة الواحدة) إلا أن نسبة الإقبال تراجعت حوالى 60 إلى 70%. فالأمر لا يتعلّق فقط بتسعيرة الدخول، إنما يتخطّاها ليشمل مصاريف التنقلات والأكل والشرب التي من شأن الزائرين تحمّلها: «نحن راضون بتحمّل التكاليف كافة وتكبّد الخسارة – في ظل انعدام أي دعم أو لفتة رسمية – لأن هدفنا ليس تجارياً. هدفنا الحفاظ على الحيوانات وإنماء المنطقة».
كيف السبيل إلى الاستمرار؟
محطتنا الثالثة والأخيرة كانت في صور مع السيد خليل منصور، مدير مشروع Xplore Adventure Park الذي تأسس في العام 2019. فبحسب منصور، الفكرة نشأت مع صاحب المشروع الذي يملك مزرعة خيل ولديه عشق للحيوانات، إذ راح يجمع كافة الأنواع لا سيما تلك المعرّضة منها للانقراض مؤكداً أن إنشاء الحديقة لم يندرج يوماً تحت خانة «تحقيق الربح المادي»، وإنما بدافع الشغف بعالم الحيوان أولاً وأخيراً. الحديقة تضم مجموعة متنوّعة من الحيوانات الأليفة والمفترسة. غير أن المشروع لا يقتصر فقط على حديقة الحيوانات، إنما يشمل أيضاً مطاعم وأماكن للتسلية وتنظيم النشاطات المختلفة. والحال أن عائدات النشاطات والمطاعم تساهم في تأمين مصاريف الحيوانات المتزايدة باطّراد، لا سيما الغذائية والطبية منها. «المصاريف»، الكلام دائماً لمنصور، «ارتفعت بواقع 85% في حين أن نسبة الإقبال تراجعت حوالى 30%. ولولا وجود نشاطات أخرى ضمن المشروع تُشجّع الزائرين على المجيء لكانت نسبة التراجع أكثر بكثير. صحيح أن تعرفة الدخول ارتفعت بنسبة 40% إلا أنها ما زالت لا تكفي لتلبية مصاريف إطعامها. الأسعار أصبحت خيالية لكننا نفضّل التعامل مع الخسائر شرط عدم التلاعب بصحة الحيوانات وغذائها».
إستمتاع فاصطياد فتحرر
يتحدّث كتاب «حديقة الحيوان: تاريخ حدائق الحيوانات في الغرب» لإيريك باراتاي وإليزابيث أردوان فوجييه عن أنّ أقدم حديقة للحيوانات في العالم تعود إلى العام 1478 قبل الميلاد، حيث اكتُشفت عظام العديد من الحيوانات ضمن بقايا مقبرة مدينة هيراكونبوليس في مصر، والتي تبيّن لاحقاً أن الفرعون كان يجمعها للاستمتاع بمشاهدتها ومن ثم صيدها. وعلى مرّ القرون المتتالية، اهتم الملوك الأوروبيون والصينيون والعرب بإقامة حدائق حيوانات صغيرة خاصة بهم، لكنها لم تكن يوماً متاحة لعامة الشعب. الهدف منها كان حبسها (لا سيما الأسود منها) في أمكنة إقامة الملوك لمطاردتها أو صيدها لاحقاً كنوع من الرياضة أو الهواية التي تحلو لهم ممارستها. كما كان يتم إرسالها في إحدى المراحل إلى المسارح الرومانية لتصارع البشر حتى الموت.
إلا أن الحدائق لم تظهر بمفهومها الثقافي الهادف إلى الاعتناء بالحيوانات ومعاملتها ككائنات ذات أهمية خاصة وصاحبة حق في الرعاية والتكاثر حتى العام 1765، حيث افتُتحت حديقة حيوانات في مدينة فيينا للعامة بعد أن كان وجودها مقتصراً قبلاً على تسلية الإمبراطور وعائلته فقط. وفي العام 1826، افتُتحت حديقة «ريجنت» في إنكلترا وكانت أول حديقة تُعنى بالأهداف التعليمية كتعريف الناس بالحيوانات، والعلمية مثل إجراء بحوث ودراسات أكاديمية عليها. أما في العام 1907، فقد عرضت حديقة حيوانات في مدينة هامبورغ الألمانية، وللمرة الأولى، الحيوانات من دون أقفاص حديدية مُحكمة، مكتفية بفصلها عن الزائرين بسياج أو خنادق مائية، ما ساهم في تسهيل حركة الحيوانات داخلها، ومنح المشاهد قدر الإمكان فرصة للتفاعل معها.