في المنطقة نفسِها تقريباً حيث اغتالت إسرائيل قبل فترة سمير القنطار، اغتالت فجر أمس مصطفى بدر الدين (ذو الفقار). وتقع هذه المنطقة في محاذاة بلدتَي المليحة وجرمانا، على الطريق السريع المؤدّي إلى مطار دمشق الدولي.
مصادر في دمشق تؤكّد أنّ العملية من حيث مكانها تشبه العملية التي أدّت إلى اغتيال القنطار، ولكن من حيث نوعيتها تشبه عملية اغتيال عماد مغنية. ليس مؤكّداً حتى الآن ما إذا كان الاغتيال نفّذته طائرات إسرائيلية. واذا صحّ التكهّن بأنّ الاغتيال حصَل بعملية تفجير، سواءٌ بصاروخ مجنّح أو غير ذلك، فإنّ ذلك يعني أنّ (ذو الفقار) بعد مغنية اغتيلا بوسيلة واحدة تقريباً.
المدخل الأوّلي الذي تطرحه منذ الآن التحقيقات في اغتيال ذو الفقار، يَطرح السؤال المفتاحي حول نوعية الخرق التي مكّنت إسرائيل من اكتشاف مكان إقامتِه في سوريا، وبالتالي كيف تعرّفت إلى شخصيته التي ظلّت لعقدين ماضيَين غير معروفة إلّا لبيئته اللصيقة به. وتعود أحدث صورة له متداوَلة لدى أجهزة الأمن، لنحو أربعة عقود، وتمّ الاستحصال عليها إثر اعتقاله في الكويت عام 1983.
في الخطاب ما قبل الأخير منذ أسبوع تقريباً، قال الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله إنّه «لا يجب النوم على وسادة الحديث عن وجود تسويات قريبة»، وحذّر حزبَه وجمهورَه من «أنّنا مقبلون على أشهر صعبة ستحفَل باستهدافات خطرة للحزب، سواء على المستوى المالي والأمني والعسكري». ودعا إلى نوع من الاستنفار في داخل الحزب، مستخدماً عبارة ملطّفة للتعبير عن ذلك، مؤدّاها دعوة قيادات الحزب ومحازبيه إلى التحلّي بأقصى درجات اليقظة في هذه المرحلة.
لقد صحّت أسوأ توقّعات نصرالله عن بدء مرحلة استهداف أمنية خطرة للحزب تضاف إلى تعاظم حرب تجفيف مصادرِه المالية، وذلك من خلال اغتيال إسرائيل خليفة عماد مغنية. فبدر الدين يُعتبَر على نطاق واسع داخل الحزب بمثابة الرجل الفعلي الثاني بعد نصرالله. وتؤشّر المعلومات إلى أنّه رئيس أكبر وحدة أمنية في الحزب، وأنّه منذ نحو ثلاثة أعوام أصبح أيضاً المسؤول العام عن قيادة كلّ الجهد العسكري للحزب في سوريا.
وأبعدُ مِن كلّ ذلك، فإنّ اغتيال بدر الدين يطرَح إشكالية باتت ملحّة داخل الحزب، وهي عن الثمن الذي يدفعه نتيجة اضطرار أبرز قادته العسكريين إلى الخروج من بيئاتهم الحاضنة لتنفيذ مهمّات حيوية خارجَها، ما يعرّضهم للانكشاف الأمني.
والواقع أنّ نظام التخفّي والحماية داخل بيئة حزب الله الأمنية لديه منطقُه الخاص وسياقه الفريد الذي يمزج ما بين الاجتماع والأمن. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ بدر الدين يُشار إليه على أنّه من «سلالة» عماد مغنية في حزب الله. فالأخير لم يكن فقط جيلاً كاملاً في الحزب واكبَ تأسيسَه وقاد عملية بناء الأجيال الجديدة فيه، بل كان «سلالة اجتماعية كاملة» تتشكّل من أسَر محدّدة طالما أمّنَت الحماية الأمنية لقادته المطارَدين.
ففي حزب الله تمّ منذ تأسيسه اعتمادُ صِلات القربى الناتجة عن شبكة من الأنساب والمصاهرة، كوسيلة لتأمين بقاء البيئة الاجتماعية التي يتحرّك بداخلها قادتُه الأمنيّون الأساسيّون بعيدةً عن إمكانية اختراقها أمنياً. أخطر عدوّ للرموز الأمنية الأساسية في الحزب، يَكمن في تمكّنِ الاستخبارات الخارجية من اختراق بيئتهم الاجتماعية اللصيقة بهم والتي يمارسون حياتَهم في داخلها.
لقد بنى حزب الله على مدى العقود الماضية مجتمعَه الذي تختبئ قيادتُه الأمنية داخلَ ديموغرافيته الصغيرة، وجعله قلعةً اجتماعية – أمنية محصّنة بعلاقات المصاهرة بين عدد صغير من العائلات التي شاركَ أبناؤها في مسيرة بناء حزب الله منذ ثمانينات القرن الماضي حتى الآن. عماد مغنية (الحاج رضوان) تزوّج من أخت مصطفى بدر الدين (ذو الفقار).
والأمر نفسه فعله المسؤولون الأمنيون والعسكريون التاريخيون الكبار في الحزب، حيث تزاوَجوا من أسَر بعضِهم البعض، وضمنوا أمنَهم الشخصي من خلال إقفال بيئتهم الاجتماعية على أسَرٍ مِن أقربائهم المباشرين، وغير المتخالطة مع بيئات أُخرى. وصار تقليد المصاهرة بين أسَر القادة الأبرز في الحزب، يجسّد التظهيرَ العملي لمبدأ الحذَر من اختراقهم أمنياً، ولضمان تحصين قلعتِهم الأمنية بنسيج اجتماعي من ذوي القربى المتصاهرين.
وعلى هذا فإنّ اغتيال بدر الدين يؤكّد ثابتةً أمنية صارت معروفة في الحزب، وهي أنّ «الموساد» يصبح أكثرَ قدرةً على اغتيال قادته الأمنيين البارزين، عندما يخرج هؤلاء ممّا يمكن تسميته القلعة الاجتماعية المحروسة بتحصينات قربى ومصاهرات متجانسة.
والواقع أنّ هذه الفكرة تَعمَّقَ الاعتقاد بها داخل الحزب من خلال واقعةٍ حصَلت بين عامي 1999 و2004. خلال تلك الفترة نجَح «الموساد» تقريباً في اغتيال جميع مسؤولي الحزب الأمنيين الذين تسلّموا تباعاً ملفّ التنسيق مع الساحة الفلسطينية، من علي صالح (عام 1999) وعلي ديب (أبو حسن خضر سلامة عام 2003) وغالب عوالي (عام 2004).
وكون كلّ هؤلاء الرموز المغتالين كانوا من فريق حزب الله المكلّف دعمَ الساحة الفلسطينية وإنشاءَ صلات مع أطرافها، فإنّ ذلك أثارَ سؤالاً داخل الحزب عن سبب هذه الظاهرة. وكانت الإجابة سهلة، وهي أنّ «الموساد» كشفَ هويتَهم بمجرّد أن تَرَكُوا بيئتهم الاجتماعية المقفَلة ليُخَالطوا البيئة الفلسطينية.
وتكرّرت الظاهرة عينُها لاحقاً مع «الطبَقة» الأمنية الأهمّ والأثمن في حزب الله، وذلك عندما خرجت بين عامي 2006 وحتى الآن لتُخالط البيئة السوريّة.
عماد مغنية كما الآن مصطفى بدر الدين وقبله سمير القنطار قتِلوا في دمشق، الأوّل في كفرسوسة حيث مجمع الأجهزة الأمنية السوريّة، والآخيران في المنطقة عينِها التي تقع على الطريق الواصل بين جرمانا ومطار دمشق.
والتفسير مرّةً أُخرى واضح، وهو أنّ هناك كلفةً عالية يدفعها قادة حزب الله المطارَدين من «الموساد»، حينما يخرجون من قلعتهم الاجتماعية الأمنية المُحكمة الإغلاق، إلى بيئة أخرى تكثر فيها الاختراقات الأمنية، وهي بيئة غريبة عن الحزب رغم علاقاته بها.
إثرَ اغتيال علي ديب في منطقة صيدا، قال نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في حديث صحافي «إن الإسرائيليين حاولوا اغتيالَ ديب سبع مرّات قبلاً وفشلوا، لكنّهم هذه المرة نجحوا لأنّ البيئة التي كان مضطرّاً ديب للعمل فيها مفتوحة، ولأنّ حزب الله ليس طرفاً وحيداً داخلها حتى يتمكّن من إقفالها في وجه الاختراقات، بل هو مجرّد جزء منها».
بعد اغتيال الموساد لمصطفى بدر الدين بات ممكناً بثقة توصيف سوريا بأنّها «الجبهة المكلِفة نوعياً لحزب الله. والواقع أنّ هذا الثمن الثقيل لم يبدأ الحزب بدفعِه منذ قرّر نصرالله الذهاب إلى القصير والدفاع عن قرى موجودة في سوريا يقطنها شيعة لبنانيون. بعد العام ٢٠٠٦ ذهبَ عماد مغنية إلى سوريا لينشِئ داخل الجيش السوري وحدات تقاتل بأسلوب حزب الله، وربّما ارتكبَ بذلك خطأه الأمني الأكبر.
فخروجُه من «قلعته الاجتماعية الأمنية الأُسرية» المحكمة الإغلاق بسياسات ذوي القربى، إلى سوريا، أعطى بلا شكّ الاستخباراتية الغربية والإسرائيلية الشديدة الحرص على متابعته فرصةً للتعرّف على شخصيته وفق أحدث صورة لها.
ذهابُه الى سوريا منَح الموساد فرصةً نادرة لكي تتعرّف على شخصية مغنية الذي نجَح في التخفّي عن ناظريها لعقدين ماضيَين نتيجة اختبائه داخل رحم بيئة قلعته الاجتماعية المسيجة بعلاقات القرابة والمصاهرة.
خلاصة القول إنّ مِن العِبَر الأمنية الأساسية التي يأتي اغتيال بدر الدين ليثبتَها داخل ملف النزاع الأمني بين حزب الله وإسرائيل، توجَد عبرة ثمينة على الرغم من أنّها ليست جديدة ومفادُها أنّ قادة الحزب الأمنيين الأهمّ يصبحون مرئيّين لدى الاستخبارات الأجنبية حينما يغادرون القلعة الأُسرية الحزبية المُحكمة الإغلاق.
إضافةً إلى أنّ تدخّلَ الحزب في الملفَّين الفلسطيني والسوري له ثمنٌ باهظ وهو المجازفة بتعريض قادته الحَذِري الحركة والأكثر أهمّية، للانكشاف الأمني لمصلحة إسرائيل.
وصار يمكن الافتراض بثقة أيضاً أنّ الموساد تستنتج من نجاحاتها في اغتيالات كادر حزب الله على الساحتين السورية والفلسطينية، أنّه في ظلّ عدم قدرتها على اختراق بيئات حزب الله الأُسرية الاجتماعية والأمنية التي تتحرك في داخلها مجموعة قادتِه الأمنيين المتصاهرين، فإنّه ليس أمامها إلّا انتظارهم بصبر وأناة عند مفارق حدود تداخُل الحزب مع الساحتين السورية والفلسطينية؛ ذلك أنّه مع لحظة خروجهم من مخابئهم الطبيعية والأسرية لمخالطة هذه البيئات الجديدة المفتوحة، تولد لدى «الموساد» الفرصة الذهبية للتعرّف عليهم ولتباشرَ مطاردتهم توصُّلاً لجَذبهم إلى المصيدة.