لولا تفاهة، اسمها المحكمة الدوليّة، لما كان لكثيرين أن يسمعوا باسم مصطفى بدر الدين قبل يوم أمس. هو مِن ذاك الصنف مِن الرجال الذين لا تُعرف أسماؤهم، فضلاً عن أشكالهم، إلا بعد رحيلهم. كعماد مغنيّة، رفيقه، قبل 8 سنوات، نزل الآلاف، أمس، إلى الشارع للمشاركة في تشييعه… وها هم، لأوّل مرّة، يتعرّفون إلى وجهه. هنا «روضة الشهيدين» في منطقة الشياح. نهاية الطواف بالأجساد العائدة، مِن مختلف جبهات القتال، منذ أكثر مِن ثلاثين عاماً.
نزل بدر الدين، أخيراً، في منزله الأبدي إلى جانب منزل مغنيّة (الحاج رضوان). على مسافة أمتار مِن منزل هادي حسن نصر الله. الشيخ ماهر حمّود، ابن «الحالة الإسلاميّة» في لبنان، وابن مدينة صيدا، المُسلم السُنّي، ما عاد يُحصي عدد المرات التي ودّع فيها شهداء هنا. شوهد، أمس، ماشياً بين الحشود المُشيّعة. وقف عند مدخل هذه الروضة أواخر الثمانينيات وقرأ وصايا شهداء وخطب وهتف. لم يكن الشيب قد غزا لحيته بعد. كانت الآمال بحجم الكون «ويجب أن تبقى».
أبناء الضاحية، أو أبناء «الحالة» عموماً، بات بإمكانهم معاينة العُمر في وجوه الرعيل الأول، الذين ما زالوا يُشاركون في تشييع تلو آخر. أصبحت هذه المناسبات تجمع الذين لا تجمعهم أيّ مناسبة أخرى. «بأمان الله يا شهيد الله… سيّد مصطفى بأمان الله». جملة الوداع ذاتها يُردّدها الحاج يحيى حدرج، أمام الروضة، منذ سنوات طوال، ولا يتبدّل فيها إلا اسم النزيل الجديد. آثار العمر أصبحت بادية على وجه الرادود حدرج، لمن رآه يصدح قبل أكثر من 20 عاماً، إلا أن صوته ما زال كما هو… آلة بثّ تراجيدي لا تتوقف.
كان بدر الدين عسكريّاً محضاً. صارماً. هذا ما اشتهر به. لابسو الثياب العسكريّة من عناصر حزب الله، الذين انتشروا حول مسيرة التشييع بكثافة، أمس، بدوا كأنهم يرسلون إلى صاحب المناسبة رسالة مفادها: نحن كما تُحبّ، باقون. الصرخات ذاتها، ككل تشييع لشهيد مِن حزب الله، هي: «الموت لإسرائيل» و»الموت لأمريكا». رجال ونساء، كبار وصغار، رايات ولافتات، حشد وتدافع، ككل مرّة، وكم قتل العدو لحزب الله من قادة، هل انتهى الحزب؟ على العكس، كان يزداد قوة، إصراراً وصلابة وعدداً. الأطفال الذين كانوا أمس في التشييع، يراقبون ما يحصل، بدهشة، هل تذهب لحظة كهذه من وعيهم عندما يكبرون؟ أم أن حسّ الانتماء سينمو فيهم، وفكرة «الثأر» ستصبح جزءاً من وعيهم؟ حصل هذا سابقاً، والعالم كلّه شاهد النتائج، والدم يستسقي الدم، إنما ليس جاهليّة، بل على طريقة حزب الله. ليته كان ممكناً تغميس أعداء الحزب في بيئة الحزب، لمدّة معينة، حتى يفهموا ما الذي يحصل هنا. المهم، على أعداء الحزب، مِن مختلف الأصناف والاتجاهات، ألا يتفاءلوا كثيراً.
كتب جعفر فضل الله، نجل المرجع الراحل السيّد محمد حسين فضل الله، أمس، شهادة مِن طفولته عن بدر الدين: «بنبأ استشهاده تداعت إلى ذاكرتي صورة للحاج مصطفى. المشهد الأقدم عندما استرقتُ النظر مِن على شرفة منزلنا في الغبيري، وأنا لم أبلغ عشر سنوات، لأراه يزحف في اتجاه عبوة على شكل طرد ألقته سيارة أمام مدخل المبنى الذي يسكنه السيد فضل الله. مشهد من عمر الحالة الإسلامية في لبنان، ومنذ ذلك الحين وصورته في مخيلتي عنوانها القلب الأجرأ؛ ومن مثله لا يؤخذ إلا غيلة، يغتاله العدو الصهيوني اليوم ليؤكد مستوى وجعه من هؤلاء وأن قبلة الجهاد تبقى فلسطين!».
رحل مصطفى بدر الدين أو «السيّد ذو الفقار». أحد أصحاب الفضل في تحرير الجنوب قبل 16 عاماً، على بعد أيام قليلة مِن الذكرى. أحد أصحاب الفضل في سابقة «كسر عين» إسرائيل قبل 10 أعوام، في تموز… وأحد أصحاب الطلقات الأولى في منطقة خلدة، في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. آن لتلك الروح أن تهدأ. الآن يبقى لرفاقه، لحزبه، أن يتكلّموا أكثر، إن شاؤوا، عن الروايات الصحيحة مِن سيرته، التي صاغت وعي جيل أو أكثر على مدى تلك الأعوام.