بلغنا من الاستقلال عتيا، ولم نتأهل إلى سن الرشد. بعد هو استقلال المراهقين الذين لا يرون من المناسبة سوى استعراضها العسكري، وبضعة أعلام مرفوعة ومصافحات لا روح فيها، مخفوتة النبض.
خمس وسبعون سنة على يوم الخروج عن فرنسا. ثلاثة أرباع القرن ويوبيل ماسي تتقدمه فرق سياسية نحاسية، بعضها يخاصم بعضه، ورئيس يهرع من سفير. رؤساء ثلاثة كل يرمي الحل على الآخر. وعلى حين سؤال عن موعد إعلان الحكومة، يرد رئيس مجلس النواب نبيه بري: إسألوا الرئيس الحريري، فيما يرمي الحريري الطابة في ملعب رئيس المجلس قائلا: إسألوا الرئيس بري، رافضا الإجابة عما إذا كان سيلتقي أعضاء النواب السنة المعارضين، مرددا: الحل ليس عندي. أما على ضفة رئيس الجمهورية، فالحل أيضا ليس عنده، إذ يؤكد مستشاره النائب الياس بو صعب أننا نحل مشكلة “عند غيرنا”.
فالأيادي المرفوعة للمصافحة واستقبال التهاني بالاستقلال، لم تكن مستعدة لأي خطوة تحول الاحتفال إلى عيد وطني حقيقي، يفرج عن اعتقال الحكومة ويحررها من أسر المقعد الواحد. وقد عثر الرئيس المكلف سعد الحريري على مخرج له مرة جديدة لتفادي مصافحة السفير السوري علي عبد الكريم علي، وذلك عبر استقدام “مخلص” انتشله من حرج السلام، لكنه في الوقت نفسه لم يكن مستعدا للبحث عن مخرج يفك “ضيقته الحكومية” المحصورة باعتراف واحد.
ولدى الاطلاع على مفردات ومواقف عبر التاريخ الحديث للحريري، سنجد أنه من أرباب سوابق في الدعوة إلى “التضحية” وتقديم التنازلات، وتقدير الوضع الاقتصادي الخطر للبنان، وإنقاذ أموال مؤتمر “سيدر”، والتخلي عن الأنانيات السياسية. وهو أيضا من وقف على خاطر وليد جنبلاط أشهرا خمسة، وفاوض سمير جعجع المدة نفسها، وظل على خط استواء مع “التيار”. وقدم غطاسه قربانا للتأليف، ولم يدل بخطاب واحد إلا وكانت حكومة الوفاق الوطني رفيقة الكلمات.
مئة واثنان وثمانون يوما، والحريري يعلمنا دروسا في التضحيات، لكن عداد التنازل توقف لدى توزير النواب السنة المعارضين. وهو اليوم رفض تسميتهم “المستقلين” سائلا: “مستقلين عن ماذا يا ترى؟”. فسمهم ما تشاء: معارضين، مستقلين، نواب سنة خارج “المستقبل”، نواب 8 آذار، أو نواب “حزب الله”، أو على أبعد تقدير هم مكون مصطنع هجين، لكنه موجود وبأصوات ناخبين مسجلين على لوائح الشطب، انتخبهم ناسهم، وتم “إنتاجهم” من محصول قانون نسبي أتاح التنوع الطائفي والسياسي.
أرقامهم لم تأت “بسحب التومبولا” ولا هي ورقة يانصيب، لا بل جاورت أرقام الحريري نفسه، حيث يربو عبد الرحيم مراد على خمسة عشر ألف صوت، وجهاد الصمد على اثني عشر ألف صوت، على سبيل الأرقام، وإذا كانت المعركة في العد، فإن نائب “حزب الله” أمين شري حصل ثلاثة وعشرين ألف صوت في بيروت مسقط أصوات سعد الدين رفيق الحريري الذي كان معدله عشرين ألفا.
وهذه الحواصل لا تمنح الحريري حق الاستئثار والحصرية في التمثيل حتى بيروته، ليست له وحده وعليه “نعم الحل عنده.. وليس له أي فرع آخر”.