نامت الفتنة في سبتها وسباتها، وطوقتها رشقات من البيانات السياسية والدينية ليلا، حاجبة عنها ضوء الأحد. وقبل طلوع الفجر، كانت المواقف الصادرة عن المرجعيات تمطر وابلا من القيم والحكم والتعايش، وتقيم الحد مع الخارجين عن صفوف الوحدة. ومن لم يتسن له إصدار بيان الإدانة بداعي النوم، استلحق نفسه في صباح اليوم التالي، مسطرا أسمى معاني التآلف الوطني العابر للطوائف وحروب المذهبيات.
كله لعن من أيقظها، فأكد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، أن الفتنة إن استعرت ستقوض الهيكل علينا جميعا. وحلل رئيس مجلس النواب نبيه بري الأصوات، فرأى في من يروج للفتنة بين أبناء الوطن الواحد وأبناء الدين الواحد، صوتا عبريا ولو نطق بلغة الضاد. وأهاب رئيس الحكومة حسان دياب بجميع اللبنانيين وقياداتهم السياسية والروحية، التحلي بالوعي والحكمة، والتعاون مع الجيش والأجهزة الأمنية المكلفة حماية الاستقرار والسلم الأهلي.
كلام في قمة الحكمة والوعي السياسي، وما يعادله من موجبات الوحدة والتلاحم، لكن من أيقظها؟، من جرى توقيفه على خلفية مشهد يستحضر عبارات الحقن المذهبي والتكسير والهجوم وإطلاق الشتائم على غاربها، من دون تسطير أي محضر ضبط بحق المفتعلين، والذين بعضهم كان ظاهرا للعيان، وقد التقطته الكاميرات بكامل وعيه الاجتماعي؟. وما وصلنا إلى تاريخه أن قيادة الجيش قد أوقفت أربعة أشخاص، هم: “سوري وفلسطيني وسودانيان اثنان”، وكفى الله شر القتال مع الطوائف وأتباعها.
وبات علينا أن نرفع شكوى دولية إلى كل من دمشق والضفة والخرطوم، لأن رعاياهم تتسبب بافتعال الفتنة في لبنان، من دون أن نلقي نظرة إلى أقرب “خندق”، أو إلى محور الشياح- عين الرمانة، أو مضارب قصقص- بربور.
علما أن البيان نفسه للجيش، ينبه إلى أن البلاد اجتازت أمس قطوعا كان من شأنه أن يجرنا إلى منزلق خطر، إذ إن ما حصل كاد يطيح الوحدة الوطنية ويمزق السلم الأهلي ويغذي الانقسام. وإذ دعت قيادة الجيش المواطنين إلى ضرورة الوعي لدقة المرحلة وخطورتها، فإن هذه الدعوة إنما وجب توجيهها إلى كل الأجهزة الأمنية، ومن وراءها من قيادات وزعامات ومرجعيات.
فلم يعد جائزا عند كل منعطف خطر، أن تنام الفتنة وينام معها التحقيق ومحاضر التوقيف، فيما شاشات التلفزة وبعض مواقع التواصل، كانت محضر إثبات على متسببين بالخلل الطائفي- الأمني، ويمكن للأجهزة سوق هؤلاء، ليس على الشبهة بل بالجرم الحي المشهود، وإذا فعلت مرة فإنها “ستعلم” الآخرين درسا يعدون فيه ألف مرة قبل أن يفتحوا “نعالهم” العلوية على الشتائم، أو أن يمدوا أياديهم الطائلة إلى أملاك خاصة وعامة، أو أن يمتحنوا خطوط تماس طوتها الحرب.
فلا يكفي أن تلقن الزعامات والمرجعيات الروحية، العابثين بالأمن الوطني، دروسا ينسونها في اليوم التالي، بل إن الدرس الأوفى حقا للوطن، لن يكون إلا بالعمل على “تنويم الفتنة بالحبس”، وفرض المحاسبة على الجميع، وبالتوازن الطائفي نفسه الذي تتبعونه في كل تعيين وتشكيل وترفيع.
وبالله عليكم لا تغمزوا ولا تهمسوا ولا تتحدثوا عن طوابير خامسة وسادسة وأحد عشر، فهذه الطوابير ظاهرة ولم تخف وجوهها، وكفى كلاما بلغة الألغاز، كأن يتحدث الرئيس نجيب ميقاتي مثلا عن أن ما حصل كان مفتعلا ومعلوما قبل حصوله، للترهيب واستدراج ردود فعل تشكل نقطة تحول نحو الأسوأ، فمن لديه معلومات كهذه كان الأجدر به أن يذهب ويدلي بها وإلا فليصمت ويحتفظ بالسر لنفسه.
وستظهر علينا غدا أقاويل وتوقعات مماثلة، لكن العبرة في التوقيف، وفي تقديم الفاعلين للمحاكمة، وليس في توفير الحمايات السياسية، على غرار تعامل القضاء في ملف الفيول المغشوش، وباقي الملفات التي لم تشهد على زج فاسد واحد في السجن.
وبعد، فإن الشعب اللبناني يتعايش ليلا بأبهى مظاهره الطائفية، والزعماء يتعايشون “ليل نهار”، يدينون ويستنكرون ويتفقدون وحدتهم الوطنية في زيارات ودية. زعيم “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في عين التينة، والرئيس سعد الحريري بعد قليل في كلمنصو، ويلقي كلمة عند الثامنة والنصف بكل الفة ومحبة.