لم يكسروا بيروت من جهة الشرق، لكنهم حرقوا القلب من جهة الوسط. وعلى كلمة السر “يا قوم” كانت موقعة الداون تاون، فالتهب الشارع الممتد من رياض الصلح إلى اللعازارية فجسر فؤاد شهاب صعودا صوب بشارة الخوري.
فجر السبت كشف أسرار ليلة الجمعة الحزينة، وصراع الإخوة انتقل من البيانات إلى الطرقات، وامتطى التحركات المطلبية والمعيشية المحقة، فعاشت العاصمة فصلا آخر من فصول الرعب والتكسير والحرق والاعتداءات على الأملاك الخاصة، وتعدتها إلى الأملاك العامة من جيش وقوى أمنية وتوابعها من الاستخبارات والمعلومات.
الوجوه كانت مكشوفة وتكاد تكون معروفة، لكن لم يضبط أي جهاز أمني متلبسا بإلقاء القبض ولو على مفتعل واحد، أو على الأقل مصادرة دراجة نارية من قوافل الدراجات التي كانت “تنغل” بينهم، وتعتدي عليهم بالزجاجات الحارقة والحجارة والمفرقعات.
ليلة الدراجات بالنسبة إلى وزير الداخلية محمد فهمي انتهت. إلى أن ما جرى هو اعتداء سافر وحاقد ومستهجن ومرفوض. جهل فهمي المعلوم. والمعلوم المجهل عند الأجهزة الأمنية تكشفه “الجديد” بتحقيق استقصائي يسير لا يحتاج لا إلى أقمار صناعية ولا إلى طائرات مسيرة، بل إلى بكاميرا خفية لاحقت مسار بعض الدراجات التي افتعلت أعمال الشغب، انتهى بعضها في البسطا الفوقا والشياح وتحويطة الغدير وبعضها الآخر في الطريق الجديدة، ليتبين أن بعضها تابع لتيار “المستقبل” ومدعوم من بهاء رفيق الحريري، بحسب ما أكد موسى الكرمبي رجل بهاء رفيق الحريري ومسؤول إحدى المجموعات.
والمدعو كرمبي اعترف بأن بهاء الحريري يدعم المجموعة بألف دولار في الشهر، وبدوره يعطي كل فرد خمسين ألف ليرة ثمن بنزين في مقابل ليلة شغب واحدة.
أخذنا أسرارهم من صغارهم، أما كبارهم فلعب كل منهم على وتره. رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، امتطى حزنه على إرث والده، وهو يستطلع الأضرار، توعد رعاة الدراجات النارية بأن بيروت ليست مكسر عصا لأحد، ولن نقف متفرجين على تخريب العاصمة. وزير الداخلية الأسبق نهاد المشنوق، وقف عند خط الوسط بين الأخوين حريري، وقال إن تحالف ال”موتوسيكلات” تذكر فجأة أنه فقير وجائع، بتعليمات مباشرة من قيادته وبجدول أعمال تدميري محدد، وله أهداف لا علاقة لها بالثورة لا من قريب ولا من بعيد، ونصب نفسه واليا على أهل بيروت قائلا إن لبيروت رجالها وكلمتها، ومن يعش ير ويسمع.
كل قدم ولاءه لبيروت على طبقة شابة مسحوقة تقيم في ضواحي الفقر، رأسمالها دراجة نارية وتدار بخمسين ألف ليرة. طبقة معروفة ومكشوفة والأجهزة الأمنية أدرى بشعابها، وفوقهم وزراء الداخلية الذين تعاقبوا عليها، ومنهم المشنوق الذي دبت فيه الحمية حين صار خارج الإطار. لكن ما ليس مبررا السكوت عنه، هو أن الجميع سابقا ومقيما في مواقع السلطة، يتكلم بالمداورة، والجميع يتحدث عن غرف سود ومجموعات وأشخاص ومندسين وكاملي الأوصاف في التخريب والتعدي، ولكن لم يستدع أي شخص للتحقيق، وكل يدعي على مجهول معروف باقي الهوية والإقامة ولوحة التسجيل.
وفي يوم “الحكومة المحكومة”، شعار تظاهرات اليوم التي أعادت النبض إلى شارع تشرين، خرج رئيس الحكومة حسان دياب بكلمة إلى اللبنانيين ليعلن انتصاره في التصدي لمحاولات الانقلاب، ويقول إن الاجتماعات السرية والعلنية سقطت، والأوامر الداخلية كشفت. تحدث دياب في العموميات، هاجم الماضي من دون أن يسمي أحدا لا في الحاضر ولا المستقبل. وبعض الماضي نفسه هو الذي شكل حكومة ظل، ويسير الأعمال والقرارات، يعين على شاكلته، ويشكل على عين القضاء ويقيم في غرف القرارات السود.
وعد دياب، وبالوثائق، بالكشف عن الفساد والمختبئين في زواياه قريبا. ولكن خير البر عاجله، والناس تحتاج إلى الحقائق لا إلى وعود الوثائق. صفى دياب حساباته السياسية من دون مضبطة اتهام. وبطريقه وعد برفع الظلم عن آلاف المحرومين من الوظائف والفائزين في مجلس الخدمة المدنية، لكن سقط من دفتر الإنجازات الآلاف الذين جرى توظيفهم بغير وجه حق ولحسابات سياسية وانتخابية.
فتح دياب مجددا دفتر الحساب مع مرحلة ما قبل السابع عشر من تشرين، لكن الحكومة صارت على الشبه، وشارع ما بعد الثورة لن يغلق الحساب العسير.