شرُفاتُ بحرِ الشمال تَفتحُ بدوامِ موتٍ ليلي، تنقّبُ عن الغائبين فيما البحرُ لا يعترفُ بالمفقودين، وليس في عُرفِه إبقاءُ المخطوفين على قيدِ الحياة. لكنّ الأزرقَ الواسع كان قِبلةَ الناسِ المزنّرة بفَقْرِ أوسع، لجأوا إليه طالبينَ الرحمة من طُغاةِ الأرض، إحتمَوا بملح وماء وقرّروا المغامرةَ معَ حيتانِ البحر على البقاءِ رهائنَ حيتانِ الشرّ على البرّ. والحصيلةُ الحزينة أَسقطت حربَ الحواصل، ووَضعتِ الانتخاباتِ برُمّتِها على زورقٍ مثقوب.
ومعَ ساعاتِ المساء، كانت عمليات البحثِ مستمرةً عن ثلاثةٍ وثلاثينَ مفقوداً من ضِمْنِ عبّارةِ الموت التي انطلقت في رحلةِ الهِجرة غيرِ الشرعية من القلمون. الطوافاتُ والزوارقُ التابعة للجيشِ اللبناني، إضافةً إلى زوارقِ الصيادين، استمرت في الضربِ برملِ البحر؛ إلا أنّ الأملَ يتضاءلُ معَ
مرورِ الوقت. أما الحصيلةُ التي رَست عليها الكارثة فكانت بوفاةِ ستةِ أشخاص، فيما نجا خمسةٌ وأربعون. والناجون اعتَقدوا أنهم نجَوا، ليكتشفُوا أنّ عودتَهم إلى حيث كانوا هي قفزٌ من المياهِ إلى النار. فهم رَجِعوا إلى حيثُ فرّوا، وأصبح عليهم التعاملُ معَ الجحيمِ اليومي الذي يَلُفُّ مدينتَهم.
وعلى سطحِ الأرض جاءت رواياتُ الناجين، ومعظمُهم قدّمَ شهادةَ مَن كاد يُصبحُ شهيداً. التقتِ الروايةُ عند اتهامٍ واحد للقواتِ البحرية في الجيشِ اللبناني، والتي حمّلوها مسؤوليةَ غرقِ المركب أثناءَ منعِ المهاجرين من إكمالِ رحلتِهم. والشهاداتُ التي توالت على عرضِ البحر، نفاها الجيش في مؤتمرٍ صِحافي وقال إنّ مركَبَ المهاجرين هو الذي اصطدمَ بخافرةِ الجيش خلالَ محاولةِ الولوج نحوَ المياهِ الإقليمية، ما أدى الى غرقِه. وتحدّثَ الجيش كذلكَ عن حمولةٍ أكثرَ من زائدة للمركب، وعن مخالفاتٍ في بُنيتِه وتسجيلِه. غير أنّ كلَ هذه الأدلة تصبحُ تفاصيل أمام زهْقِ الأرواح ودفعِ الركابِ إلى المقاومةِ للنجاة، فمِن حقّ الجيش مطاردةُ المهاجرين بطريقةٍ غيرِ شرعية لكنْ ليس للقواتِ البحرية أن تطوّقَ وتُربِكَ وتتسبّبَ بحالةِ فوضى وتدافع، ثم تبدأ بعملياتِ الإنقاذ. فلماذا وَقعت عمليةُ الطوقِ البحري، ومَن قال إنّ الهِجرةَ الشرعية لم تعُد شرعيةً بقرارٍ رسمي غيرِ معلَن؟ فطرابلس مدينةُ الأغنياء من الزعماء، تَركت أولادَها إلى مصيرِهم يبحثون عن شاطئٍ آمِن وعن أحياء خارجَ الوطن تَعترفُ بوجودِهم كشعبٍ يجوعُ ويثورُ وينتفض، تارةً يُنعت بالإرهاب وطوراً تَخطفُه أصواتُ المرشّحين كلَ أربعِ سنواتٍ مرة، قبل أن يُنسى لكأنه “صِفرٌ في الشمال”.
نعم هؤلاء هاجروا، وارتَكبوا الخطَر وغيرُ شرعيين، وتمرّدوا على كلِ ما في الدولة من حواجزَ بحريةٍ وبرية، لكنْ هل أَبقت لهم سلطتُهم طوْقَ نجاة؟ وسَواءٌ ضُرِبَ زروقُهم بقاربِ الجيش أم الروايةُ كانت عكسية، فإنّ المؤسسةَ العسكريةَ اليوم أمام تحدي إثباتِ الحقائق في كشفٍ مَبنيٍ على الصوتِ والصورة والاقمارِ البحرية إنْ وجدت، وبفتحِ تحقيقٍ عسكريٍ جاد يَقطعُ فيه الجيش الطريقَ على اللَعِبِ بأمن طرابلس الواقفِ على جبهات وكلِ الاحتمالات… فحقيقةُ مرفأ طرابلس لا يمكنُ لها أن تَذوبَ كملحِ مرفأ بيروت. أما السلطةُ الرسمية التي أَعلنتِ الحِداد، فإنّ الحزنَ وحدَه لا يكفي، وتنكيسُ الأعلام أصبح واجباً على حُكمٍ نتقبّلُ فيه التعازي.