رغم كل ظواهر الفقر وانزلاق البلاد إلى متاهات مالية واقتصادية وأمنية خطرة جدا، ورغم ما يترافق مع الانهيار من مآس إنسانية، تتجلى من خلال قساوة الانتحار وتحول الآباء إلى قطاع طرق لجلب لقمة الخبز والدواء والحليب لأطفالهم، رغم هذه المآسي لا تزال مكونات السلطة، أي الحكم والحكومة، تجد متسعا من الوقت: هذا لتحسين حظوظه الرئاسية، وذاك للضغط على رئيس الحكومة بتخويفه من البديل الجاهز كي يظهر المزيد من الطواعية، وآخر لتصفية الحسابات مع رئيس الجمهورية وتياره.
ووراء اللاعبين الثانويين هؤلاء، يقف “حزب الله” الذي يسوقهم جميعا إلى حيث هو يريد، تاركا لهم هوامش واهية للتمايز في ما بينهم، طالما أن أحدا منهم لن يجرؤ على الخروج من بيت الطاعة.
وحدها مصالح اللبنانيين ومصلحة الدولة لا أب لها يسأل عن مصيرها، وقد شارفت التحلل التام والكامل. أكثر من ذلك، فإن آلام الناس وانتحاراتهم وجوعهم لا تحرك ساكنا أو تصحي ضميرا لدى الحكومة، فهي تمعن في ركوب رأسها وتعاكس كل الوصفات العلمية والقانونية والإنسانية للحل، وآخر إبداعاتها التدرج في استخدام القضاء لقمع المعارضين، وصولا إلى تفليت ميليشيات غب الطلب للإعتداء على الأصوات الحرة، كالإعتداء السافر على الناشط والمحامي واصف الحركة، الأمر الذي أثار غضب اللبنانيين وشجب المؤسسات الأهلية والنقابية وفي مقدمها نقابة المحامين.
في الشق الآخر من المشهد الوطني المأزوم، يواصل رئيس الحكومة رحلته نحو الشرق، غير عابىء بالمطبات الخطيرة التي من شأنها أن تقضي على أي قابلية لإعادة بث الحياة في الاقتصاد.
توازيا، أثار تهاوي سعر صرف الدولار ارتياحا عاما مشوبا بكثير من الحذر، إذ وكما ارتفع بشكل جنوني وغير مبرر ما أثار الشكوك في النفوس، فإن هبوط الدولار أو تهبيطه أثار ارتياحا مشوبا بالشكوك والحذر. فإذا كان الكل يسلم بأن الدولار بـ 1515 ليرة ليس منطقيا، فإن الدولار بعشرة آلاف ومن ثم بسبعة آلاف ليرة ليس منطقيا أيضا. من هنا يتعين على الحكومة والمصرف المركزي والمصارف، انتهاج سياسة مالية نقدية واضحة تزيل الالتباسات، فيسكت عندها الناعقون والمحللون. وليست آخر التحليلات، أن الدولار انخفض لأن اللبنانيين حسبوا أن حكومة دياب سقطت ما أنعش الأمال بحلول قريبة، أو أن فتح المطار سمح للمغتربين العائدين بجلب دولارات طازجة خففت الطلب على العملة الخضراء، أو أن “حزب الله” خفف تدخله في السوق حماية للحكومة.
بعيدا من التحليلات والتصورات، الحاجة ملحة الآن، للتصالح مع صندوق النقد لإنقاذ اقتصادنا ومصارفنا ومدارسنا ومصانعنا من خراب أكيد، ولكسر حلقة الجوع التي لا تنفك تتوسع وتتضخم. والوصفة لتحقيق الإنقاذ معروفة: أرقام واحدة، مشروع نهوض علمي وعملي، استعادة سيادة الدولة من الدويلة. وإذا أردنا ترتيب هذه العناوين بحسب أهميتها، فلا بد أن نضع مسألة استعادة السيادة في رأس القائمة، وإلا عبثا يحاول المحاولون.