…وأخيرا: حكمت المحكمة. فبعد خمسة عشر عاما ونصف العام صدر حكم البداية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. الحكم يدين بشكل مباشر، رجلا واحدا: سليم عياش. في البداية يبدو الامر مستغربا، لأنه يوحي ان عياش رصد ومول خطط ونفذ عملية اغتيال بهذه الخطورة وبهذا الحجم لوحده، لكن الاستغراب يزول متى علمنا ان المحكمة برأت المتهمين الثلاثة الاخرين حسن مرعي وحسين عنيسي واسد صبرا لعدم كفاية الدليل ليس الا، فيما ربطت عياش بالمسؤول العسكري لحزب الله مصطفى بدر الدين.
في الشكل: المحكمة أكدت اليوم حياديتها وانها غير مسيسة، كما اتهمت طويلا وكثيرا من قبل فريق سياسي معين. فالمحكمة ابتعدت من السياسة ولم تخرق القانون الذي نظم انشاءها، ولم توجه تهما لا الى حزب سياسي ولا الى دولة، كما امتنعت عن تجريم من لم تثبت عليه التهم، ولذلك كانت البراءة من نصيب مرعي وعنيسي وصبرا.
هذا في الشكل، اما في المضمون فالامر مختلف. الرواية التي اوردتها المحكمة في سياق الحكم تؤكد ان الجريمة سياسية بامتياز. الحكم تحدث بصراحة عن مصلحة سياسية لسوريا بالاغتيال، كما اكد ان عملية الاغتيال هي عمل ارهابي نفذ لأهداف سياسية لا لأهداف شخصية، وان الاشخاص المتهمين باغتيال الحريري ورفاقه مرتبطون بجهة منظمة، وان الشخص المدان ينتمي الى حزب الله .
الا تشكل كل هذه العبارات والوقائع ادانة واضحة لجهات محددة، والا تعني ان سليم عياش هو مجرد منفذ، فيما المخططون والمحرضون والمشاركون من بعد ظلوا خارج اطار الادانة لأن اختصاص المحكمة الدولية لا يشملهم؟ علما ان ابقاء هؤلاء خارج دائرة الادانة المباشرة، لا يعني ابدا اخراجهم من دائرة الاتهام.
انطلاقا من كل هذه الوقائع: ماذا بعد؟ انه سؤال بسيط يجر الى عدد من الاسئلة المعقدة المتشابكة . فبعدما ثبت ان المحكمة غير مسيسة ولا صهيونية ولا امبريالية كما كانت تتهم ، هل صار حزب الله مستعدا لتسليم المدان الوحيد في الجريمة؟ اذا فعل يكون حزب الله قد اثبت براءتـه وانه غير مسؤول عن جريمة العصر ، اما اذا بقي على رفضه ولم يسلم المدان فانه يثبت مرة جديدة انه لا يؤمن بأي عدالة سوى عدالته ، وانه لا يرضى أن يرضخ لأي قانون سوى القانون الذي يسنه بنفسه ولنفسه ، ثم : ماذا ستفعل الدولة اللبنانية عندما ترسل المحكمة الدولية طلبا لتسليم سليم عياش ؟ هل تمتثل وتنفذ ما يطلب منها، ام تتجاهل الطلب كما فعلت عندما طلبت منها المحكمة تسليم المتهمين لاستجوابهم واخضاعهم للاجراءات القانونية ؟ الأرجح ان “الدولة الضعيفة” ستنفض يديها من الموضوع ، وستدعي انها لا تعلم شيئا عن عياش او انه ليس على اراضيها، ما يثبت مرة أخرى استسلامها وعجزها امام حزب الله .
ففي هذه الحالة ماذا سيكون موقف المحكمة الدولية؟ هل ستعود الى مجلس الامن باعتبار ان المحكمة نشأت تحت الفصل السابع؟ وهل سيتحرك مجلس الامن .. وفي اي اتجاه؟ الخلاصة : اليوم انتهت مرحلة وبدأت مرحلة جديدة . كان الرئيس الشهيد يقول: “ما في حدا اكبر من بلدو”. واليوم ثبت انو “ما في حدا اكبر من الحقيقة” ، وغدا سيثبت “انو ما في حدا اكبر من العدالة” .. فالعدالة تمهل ولا تهمل.. وفليحيا العدل