إعتذر مصطفى أديب من التكليف، فوضع حدا فاصلا بين الآداب الدستورية والدولتية وأصولها، وقلة الأدب التي تمارس في حق الدستور والقوانين التي يمارسها المنقلبون على الدولة والدستور. إعتذر أديب ففرض مهرا باهظا على كل راغب في تولي رئاسة الحكومة، إما ينطلق من الحدود التي رسمها أديب ويحلق إلى أعلى، وإلا سقط في كل المقاييس، سنيا ولبنانيا ودستوريا. إعتذر أديب فأسقط الإنقلاب الزاحف على الدولة، ليس منذ الأمس، بل منذ السابع من أيار 2008 الذي أنجب اتفاق الإذعان في الدوحة، بل منذ الإنقلاب على الطائف عام 1992.
إعتذر أديب فأعاد الإعتبار لوسائل الممانعة السلمية الديموقراطية، أي الكتاب في مواجهة البندقية، وقالها بهدوء لمن يعنيهم الأمر في الجانبين: المتخاذلون وراءه والمتنمرون أمامه، أنتم انهضوا من سباتكم. وأنتم اركبوا أعلى خيولكم. تريدون المواجهة نحن لها، أنتم بالرصاص إن تجرأتم ونحن بصدورنا العارية، وإيماننا بأن لبنان إما يكون دولة ديموقراطية حضارية أو لا يكون.
مكامن القوة في ما قام به أديب، أنه عرى الانقلاب ووضع حدا لتراخي البعض تحت مسمى إنقاذ البلاد من الفتنة والخراب، فهذه السياسة لم توصلنا إلا إلى الخراب والجوع، وشجعت الانقلابيين على المزيد، فيما صارت الفتنة وراء كل باب. أما مكمن الضعف أن أديب لم يشكل حكومته بوزرائها ووزيراتها ويرميها في وجه الطغمة، بل اكتفى برمي الاستقالة وانسحب.
مفاجأة أديب فعلت فعلها، إذ أحدثت فوضى في صفوف السلطة، فأطلقت الأخيرة أبواقها معلنة تعلقها بالمبادرة الفرنسية. وفي إرباك غير معهود، توجه أركانها إلى الرئيس ماكرون قائلين له، بالفارسية وليس بالفرنسية، إنهم مع روح مبادرته التي تنادي بمحاربة الفساد، لكن دعنا نتحاصص ونتقاسم حقائب الحكومة ونضع فيها أخلص رجالنا لضمان حسن التنفيذ، علما بأن روح مبادرة ماكرون تقوم على استبعاد هؤلاء ورجالهم.
أكثر من ذلك، أليس خبيثا رهان السلطة على أن ماكرون لن يجرؤ على وقف مبادرته وهو ملزم على الاستمرار فيها إنقاذا لنفسه؟. أليس خبيثا وكاشفا لنواياها السيئة، أن تسرب السلطة في إعلامها أنها كسرت ماكرون كما كسرت إسرائيل، وهي ستعوم حكومة دياب إلى ما بعد الانتخابات الأميركية؟.
في أي حال، سيقطع ماكرون الشك باليقين، إذ يعقد مؤتمرا صحافيا الأحد يحدد فيه موقفه من الاطاحة بمبادرته.
من هنا إلى أين؟. يأمل اللبنانيون وأصدقاء لبنان، أن تتمسك المعارضة بحكومة “المهمة”، إلزاما لفرنسا بها إن كان لدى ماكرون نية في التراجع عنها أو تحويرها أو لبننتها، والضغط على السلطة لتحميلها مسؤولية عدم الانصياع لمطالب الناس، خصوصا أن تبعات هذا الرفض تتجلى في الانهيار المالي والاقتصادي والمجاعة الزاحفة والفيروس المتوسع والفوضى الأمنية المتنقلة.
كما يراهن اللبنانيون على غريزة البقاء لدى الرئيس عون، إن هي لا تزال شغالة، أن ينقذ عهده بالقفز من القطار المخطوف إلى إيران، فيصطف إلى جانب الشعب ليجنب نفسه واللبنانيين نار جهنم التي حذر هو منها، في تاريخ لم يمر عليه الزمن.
في النهاية، لن يحمي الله لبنان إن لم نهب نحن لحمايته.