هو الرشد السياسي الذي جاءنا كربيع متأخر ، أم هي الضغوط الفرنسية الألمانية الأوروبية الروسية ، أم هو أنين الجياع الذي بدأ يصم الآذان ويخترق الجدران السميكة التي يتلطى وراءها أهل المنظومة ؟. ربما كل هذه الإنذارات والصرخات وأجراس الإنذار القارعة مجتمعة هي التي دفعت أهل السلطة إلى الإنكفاء تكتيكيا من ممارسة التحكم إلى التموضع ضمن دائرة الحكم ، فكانت زيارة الرئيس المكلف اليوم إلى بعبدا متشائلة في مضمونها ، أي في منزلة وسطى بين التفاؤل الحذر جدا بالتشكيل، والتشاؤم النسبي المبرر جدا بإمكان إجهاض محاولة استيلاد حكومة المهمة ؟.
أجواء الزيارة عبر عنها الرئيس الحريري بوجه غير باسم وغير متجهم في آن ، بعد لقائه الرئيس ميشال عون ، إذ اعلن بثقة أنه قدم الى الرئيس تشكيلة من 18 وزيرا من أصحاب الإختصاص غير الحزبيين ، وتمنى أن تحظى بمباركته .
في المقابل قدم الرئيس عون طرحا متكاملا وصفته بعض المصادر بأنه تركيبة من دون أسماء لحقائب وطوائف. وكانت أجواء ما قبل الزيارة أشرت الى أن الإتصالات الدولية والمحلية المكثفة ، أفضت إلى التخلي عن المداورة على الحقائب، وإلى إسقاط الثلث المعطل الذي كان يطالب به الرئيس عون والتيار، ما يعني حكما أن توافقا مبدئيا قد حصل بين مكونات السلطة على أن يختار الرئيس المكلف من باقة أسماء تتقدم بها المكونات من يراهم الأصلح للتوزير، إضافة طبعا الى وزراء فريقه . مما تقدم هل يعني أن الأفخاخ أزيلت وفتح الطريق أمام التشكيل ؟ طبعا لا ، إذ يتعين أولا التحقق من صحة السيناريو الذي أوردناه ودقته.
طبعا لا، لأنه يتعين التأكد ايضا من ألا يكون وراء الليونة الرئاسية الظاهرة مناورة استيعابية تبعد عن الرئيس عون وفريقه اللصيق كأس الظهور في مظهر المعرقلين لاستيلاد الحكومة، والبلاد قد دخلت مرحلة متقدمة نحو الجوع والعزلة. كما يتعين التأكد من ألا يكشف التراجع الرئاسي تصلبا كامنا ومستترا لحزب الله ، علما بأن الرئيس بري الذي يمثل الشق المدني من حركة الثنائي، بدا مشجعا ومسهلا للتشكيل. من الرشد السياسي الخجول، الى الترشيد في الصحي والاستشفائي و الغذائي والتربوي والاستهلاكي . والترشيد في معناه اللغوي الذي اعتمدته حكومة تصريف الأعمال، ليس سوى المرادف الأكيد لعملية رفع دعم شاملة عن كل شيء ، ستكون كارثية بنتائجها ، إذ ستقطع ما بقي سالما من خيوط بالية لما كان يعرف بشبكات الأمان، و التي لا يزال اللبنانيون يتعلقون بها كحبال الهواء. هذا لا يعني في المقابل أن إبقاء الدعم هو الحل. الحل يكون بتشكيل حكومة المهمة ، ببرنامج إصلاحي قابل للتطبيق، يعيد الثقة بالمصارف و الاقتصاد والقضاء، ما يفتح الباب أمام عودة الاسثمارات وعودة عجلة الانتاج الى الدوران . عندها ، وعندها فقط يمكن البدء بعملية رفع دعم متدرجة ومضبوطة، تتحرك بالتوازي مع عودة مؤشرات النمو الى حركتها الإيجابية. وكل قرار لا يستلهم هذه القواعد يكون مخدرا قاتلا كالذي أدمنه اللبنانيون زمن تثبيت سعر صرف الدولار، الذي تحول بفعل كسل الحكومات المتعاقبة من حل مؤقت الى نهج إدارة أوصلنا الى الكارثة التي نتخبط فيها