السابع والعشرون من شباط: يوم تاريخي واستثنائي في عمر لبنان. أمران يحددان تاريخيته واستثنائيته. حجم الوفود الشعبية التي زحفت الى الصرح البطريركي في بكركي، والخطاب غير المسبوق للبطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي.
إذ ليس سهلا في زمن كورونا،أن يكسر الناس حاجز الحيطة والحذر والخوف، وأن يأتوا الى بكركي تأييدا لطروحات سيدها. المشهد كان مؤثرا ومعبرا: لبنانيون من كل الطوائف والمذاهب ومن اتجاهات سياسية مختلفة، جاءوا الى الصرح الديني_ الوطني، ليبايعوا البطريرك في معركته الوجودية لاستعادة لبنان.
نسوا الكورونا لساعات، غضبهم كان أقوى. قهرهم كان أقسى. ووجعهم من المنظومة السياسية الفاسدة كان أفعل. أرادوا، ومهما كان الثمن، أن يلتقوا وأن يروا وأن يسمعوا من “أعطي له مجد لبنان”. أرادوا ان يقولوا له باسم الشركة والمحبة: شكرا على ما تفعله من أجلنا ومن أجل وطننا.
البطريرك الراعي تلقف الرسالة جيدا، واستوعب كل معانيها، فكانت له كلمة مدوية، يصح أن تعتبر وثيقة تاريخية، بل خريطة طريق للمستقبل. كلمة البطريرك اليوم هي بأهمية وبخطورة نداء المطارنة الموارنة الذي صدر في العشرين من أيلول عام 2000، إن لم تكن أكثر أهمية وأخطر.
يومها شكل النداء منطلقا لبدء المعركة السلمية الحضارية ضد استمرار الاحتلال السوري على لبنان. واليوم ينتظر أن تشكل كلمة البطريرك منطلقا لبدء تحرير الدولة من الفساد والتبعيات والارتهانات، ومن السلاح المتفلت ومن ثنائية قرار الحرب والسلم.
بتأن قرأ البطريرك خطابه، تماما كما كتبه بتأن. القاؤه الهادىء والحازم في آن، احتضن روح اللحظة التاريخية وروح الشعب. سبع عشرة مرة توجه البطريرك مباشرة الى الناس قائلا لهم: لا تسكتوا، فبدا كأنه في طليعة الثورة، بل بدا كأنه القامة التاريخية التي تبحث عنها ثورة السابع عشر من تشرين ولم تجدها حتى الآن.
وبحزم متأن أكد الراعي للناس وللمجتمعين العربي والدولي أننا نواجه حالة انقلابية، داعيا الى تحرير الدولة، لأنه لا يصح وجود دولتين في دولة واحدة، ولا وجود جيشين في دولة واحدة. والحل واضح عنده: الحياد الناشط وعقد مؤتمر دولي عن لبنان لتطبيق الطائف نصا وروحا…
والان، ماذا بعد؟، السابع والعشرون من شباط انتهى، والأكيد ان غدا يوم آخر. فما بعد الوثيقة التاريخية للراعي لن يكون كما قبله. مسيرة الاستقلال الثالث بدأت. فكما أن البطريرك عريضة هو عراب الإستقلال الاول عام 1943، وكما أن البطريرك صفير هو عراب الإستقلال الثاني عام 2005، فإن البطريرك الراعي صار اليوم عراب الاستقلال الثالث.
فيا أبانا البطريرك: لبنان الذي أهدروا دمه، وأفقدوه مجده، ينتظر منك أن تعيد إليه مجده المفقود. أنت اليوم لم تعد بطريرك الموارنة فقط، بل صرت بطريرك لبنان، بطريرك الثورة والتحرر. الشعب معك “يا سيدنا”، التاريخ معك، والحاضر والمستقبل معك. لقد علقنا طويلا على الصليب، وتعبنا من ممالك الظلمة والظلم ومن أبواب الجحيم . فلتشرق علينا من جديد شمس الحرية والتحرر .. فلتشرق من جديد شمس لبنان.