العالم العربي يغلي من حولنا في جغرافيته السياسية وتبدلاته الاستراتيجية، فبعدما انتهى مفهوم دول الطوق التي كانت تخنق إسرائيل كلاميا، في معظم الحقبات الزمنية التي تلت نكبة فلسطين، ومرة واحدة عسكرية سرعان ما أجهضت بعد حرب تشرين 1973، بعد انفراط عقد هذه الدول، باتت إسرائيل اليوم تطوق الطوق بسلسلة عمليات تطبيع، آخرها ما نشهده اليوم بين تل ابيب ودول الخليج العربي وصولا الى السودان، وشهية نتنياهو مفتوحة الآن لاستقطاب السعودية الى المنظومة، ساعيا الى استغلال آخر أيام الرئيس ترامب في الادارة الأميريكية.
ما يعني لبنان في هذا الشأن، أن يسارع الى تشكيل حكومة المهمة وبالمواصفات التي يطالب بها الفرنسيون والمجتمع الدولي والأمم المتحدة، لأن ما سيواجهه بعد عاصفة السلام في محيطه، هو عزلة خانقة قاتلة بدأت طلائعها بالظهور، وهي ستضاف الى العزلة الدولية التي نعيش في ظلها والمرشح منسوبها للارتفاع، كلما أحجمنا عن الانصياع للتوصيات الدولية، إن لجهة تخفيف مساحة سيطرة “حزب الله” على الدولة وفي الحكومة، أو لجهة غياب البرنامج الإصلاحي.
ولم يكن ينقص لبنان سوى إعلان الجامعة الثقافية في العالم في اجتماعها القاري في المكسيك، “لبنان وطنها الأم دولة محتلة دعت الى تحريره، والمقلق أن المنظومة عندنا تسوق لبنان في الاتجاه المعاكس، وهذا ما بدا في كلمة رئيس الجمهورية التي اقتصرت على التوصيف وتوزيع الاتهامات وخلت من أي خريطة طريق خلاصية، كما بدا في السجالات الدائرة بين عين التينة وبعبدا، والتي يقابلها الرئيس الحريري بالصمت وبعدم الإقدام على عرض التشكيلة التي يقتنع هو بها، كأمر واقع تحريكي وليس كقنبلة تعطيل.
وفي ما يشبه الإمعان في زعزعة الهيكل، تندرج دعوة الرئيس نبيه بري الى جلسة اللجان النيابية المشتركة الأربعاء خصصها لدرس قانون انتخاب جديد، في خطوة من خارج السياق سيواجهها الثنائي المسيحي الظرفي، “القوات – التيار”، سيواجهانها لتوقيتها الملتبس و غياب مبرراتها، فالقانون النسبي جديد وجيد وأمن صحة التمثيل للجميع، وتطلب سنوات طوال من أجل إقراره، والبحث عن البديل منه الآن ليس سوى دعوة الى خلاف عميق لا تحتمله البلاد، ووصفة مجانية لتعطيل الانتخابات النيابية المقبلة، ونسف نهائي لاحتمال تأليف حكومة، وهذا في مضامينه ليس تعطيلا بل انقلاب.
في المقابل، ما أحجمت عنه المنظومة، متسلحة بجشعها ورهانها على عطب الثورة وغياب القيادات، قامت به القوى المجتمعية الحية المكونة من نقابات المهن الحرة والمرجعيات الأكاديمية والروحية، إذ اجتمعت هذه القوى في قصر العدل يتقدمها نقيبا المحامين في بيروت وطرابلس، وأطلقت مبادرة وطنية وضعتها تحت عنوان: “معا نسترد الدولة”.
أهم ما في المبادرة أنها مفتوحة للنقاش وتزخر بنفس إصلاحي واضح وتستلهم اتفاق الطائف، بما يحمل لبنان الى رحاب الدولة التي يتوق اليها كل اللبنانيين على اختلافهم ، ويحشر في الزاوية من تغريهم الاتجاهات الأكسترا دولتية والأكسترا حدودية، التي تضع لبنان رهينة على قارعة المصالح الإقليمية.
شعلة الأمل التي أضاءتها المبادرة تنبع من أنها شكلت العنصر المفقود في الثورة، أي النواة القائدة، من دون أن تدعي تمثيلها، كما أنها حشرت أهل السلطة الذين ما عاد بإمكانهم الإدعاء، بأن لا برنامج ولا محاور في الجهة المقابلة.