هي معركة في حرب وحرب لن تنتهي بين واشنطن وطهران. منذ أقل من أربعين عاما بقليل، سقط شاه ايران محمد رضا بهلوي بالضربة الخمينية القاضية. تخلى الأميركيون عن شرطي الخليج وشهبور فارس الجديد، بعد سنوات قليلة على احتفاله الأسطوري ب2500 عام على نشوء امبراطورية فارس التي امتدت من زاغروس إلى طوروس ومن النيل إلى الفرات ومن آسيا الوسطى إلى البحر المتوسط.
استعرض محمد رضا بهلوي يومها فرقة “الخالدون” التي كانت الحرس الامبراطوري في زمن كورش وداريوس. انهار “الخالدون” عندما فتح الامام الخميني باب الطائرة التي أعادته من المنفى في شباط 1979. تحول بهلوي إلى ملك مخلوع يبحث عن بلد يستقبله ومستشفى يداويه. مات ودفن في مصر السادات الذي لحقه بعد سنتين، وانتهت معه أحلام الشاهنشاه وأوهام الامبرطورية، وباشرت واشنطن لعبة تحريك البيادق على رقعة الشطرنج. وجهت رسالة بالبريد الشيعي إلى الاتحاد السوفياتي ان جيرانه في بحر قزوين والجنوب تبدلوا، فتدخل في افغانستان وتاه في سهول ووديان وجبال البلد الذي لم يصمد فيه غاز عبر التاريخ.
ولم يعر نظام الخميني يومها أولوية للصراع مع السوفيات، فحرك الأميركيون صدام حسين، وبدأت الحرب بين العرب والعجم في قادسية جديدة امتدت ثمانية أعوام، وفتح معها الجرح السني- الشيعي منذ ذاك الحين ولم يختم بعد. تجرع الايرانيون الكأس المرة عندما وافقوا على وقف الحرب مع صدام الذي تعامل مع الايرانييين كمهزومين، ووقع في المحظور عندما هاجم الكويت وانتهى مشنوقا على أعواد الأميركيين الذين حرقوا ودمروا بغداد كما فعل هولاكو منذ 750 عاما.
كانت الحرب بين طهران وواشنطن ولما تزل، سجالا ونزالا وقتالا مقطوعا بهدنة غير معلنة ومتقطعا بوقف نار هش منذ 40 عاما إلى اليوم. من لبنان إلى الجولان، ومن الأوزاعي وعين المريسة إلى الاهواز وطهران. ومن صنعاء إلى حلب الشهباء. درب الحرب تتوسع والمواجهة مع الغرب الأميركي واسرائيل تترسخ. المعادلة لدى ادارة ترامب باتت واضحة: حياة ايران تعني موت اسرائيل والعكس صحيح.
أربعون عاما من سياسة الاحتواء لم تنفع مع طهران. حان زمن الالغاء. العام 49 قبل الميلاد أطلق يوليوس قيصر عبارته الشهيرة عندما عصى قرار مجلس الشيوخ الروماني الرافض لحملته على بلاد الغال واجتيازه لنهر الروبيكون بعيدا من روما، قال: “الآن وقد رمي النرد فلا عودة إلى الوراء” واجتاز النهر. رمى ترامب النرد في وجه العالم وخصوصا أوروبا، والمنطقة ما زالت تنتظر ايران هل ترمي القفاز في وجه واشنطن وتعود المواجهة إلى الواجهة بعدما كانت بالواسطة؟.
العقوبات الجديدة أو المتجددة على ايران عادت، والصعوبات في المنطقة بدأت، ولبنان الذي ابتدع مصطلح النأي بالنفس عن صراعات سوريا، سيحتاج إلى أكثر من النأي بالنفس ليتجنب الوقوف في طريق قطيع الفيلة الهائج، وعلى تقاطع مصالح الأمم بين ايران وأميركا واسرائيل التي تنام على خوف وتصحو على قلق.
ما يسمى بالعقدة السنية يوحي بأن مرحلة اجتياز صحراء جديدة بدأت، تقصر أو تطول. العهد يطفىء شمعته الثانية، لكن جذوة الأمل والعزم والشجاعة لن تنطفىء، وشموع الايمان ستبقى مضاءة ولبنان كعليقة الجبل المقدس يتوهج ولا يحترق.