… وفي السبت الأبيض اجتمعت الحكومة الأولى للعهد، الثانية في ولاية الرئيس عون، والثالثة للرئيس سعد الحريري في بعبدا، للصورة والتحضير لبيان الضرورة، البيان الوزاري. هي حكومة العهد الأولى وقد تكون الأخيرة، إذا طال عمرها ولم تطلها النكسات. كان تشكيلها صعبا ويفترض أن يكون حكمها أقل صعوبة. حكومة لا غالب ولا مغلوب، بعد ستين سنة وأكثر بقليل على ولادة حكومة ما بعد “ميني ثورة” 1958 والشعار الشهير لرجل كبير هو صائب سلام.
هي حكومة المعادلات والتفاهمات، وهي نسخة منقحة عن سابقتها مع تعديلات في الشكل، لكن مع تغييرات في الجوهر وفي التوازنات. حكومة تكنوقراط واختصاصيين بالمفرق وليس بالجملة، والدليل وجود منصور بطيش وكميل بو سليمان وعادل أفيوني وندى بستاني ومحمد شقير وربما غيرهم، فيها.
حكومة علامتها الفارقة الرباعية النسائية، وتولي ريا الحسن وزارة الداخلية، أهم وأدق الوزارات حساسية وأهمية لدى جمهور “المستقبل” والشارع السني، فكانت ضربة معلم للحريري الإبن بالإتيان بأمراة، ليس فقط لخبرتها وكفاءتها، بل لتوجيه رسائل إلى من يهمه الأمر بأن لا أحد لا يمكن الاستغناء عنه.
حكومة، البارز فيها أن التمثيل المسيحي فيها تحرر من عقدة استتباع الوزراء وإلحاقهم أو تمنينهم، كما كان يحصل منذ الطائف، فتحققت المناصفة والشراكة والميثاقية بين المسيحيين والمسلمين في هذه الحكومة.
ليس من اللياقة ولا اللباقة بمكان، تحويل الصورة الحكومية إلى مشهدية عراكية- نزالية، لكن الواقعية واحترام عقول اللبنانيين يفترض الاقرار أن جهات أخفقت وجهات حققت. ومن دون افتراء ولا إطراء يمكن القول إن “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” ضربا عدة عصافير بالمنجنيق وليس بالحجر: توزير حليف سني، دعم الحلفاء في وجه الزعامة الجنبلاطية، الحد من اندفاعة “القوات اللبنانية” التي كان لموقفها إنعكاس إيجابي على ولادة الحكومة في الساعات الأخيرة.
“حزب الله” من جهته نجح بفرض إيقاعه- وهنا الإشارة الأهم- على شريكه وحليفه نبيه بري وحركة “أمل” التي وزرت محمد داوود نجل القيادي الكبير والرجل الثاني في حركة “أمل” داوود داوود، الذي اغتيل منذ 3 عقود مع محمود فقيه وحسن سبيتي في حادثة هزت حركة “أمل”، واتهم فيها الرئيس بري يومها خوارج العصر كما أسماهم بارتكابها.
كل ذلك لم يقم به “حزب الله” لوحده، بل ان موازين القوى جعلت له شريكا قويا بارزا هو “التيار الوطني الحر”، ومهندس التفاهمات والتسويات والاخراجات جبران باسيل.
“القوات” خرجت منتصرة في الانتخابات النيابية، وغير موفقة في التوليفة الحكومية، ولم تتمكن من نيل ما طلبت. “التيار” عارضها، الحريري لم يدعمها، وجنبلاط تفرج عليها و”حزب الله” لم يحبذ تنامي حجمها.
سعد الحريري خاض معركة أصعب، وهي تحجيم معارضي الداخل، أي البيت “المستقبلي”، وهي كانت معركة أهم من المعارك التي خاضها خارج عتبة المنزل وأسوار الحديقة. تعاونه وتحالفه مع جبران باسيل المتحالف مع “حزب الله” والصديق لسوريا، أراحه من عبء المواجهة المباشرة مع خصمين لا يريد المضي في المعركة معهما، لا بل يريد وقف اطلاق النار وهدنة وصولا إلى اتفاق سلام بدأت تباشيره الواضحة في إيكال وزارة النازحين إلى أقرب المقربين من طلال ارسلان، صديق بشار الأسد، وهي إشارة أكثر من ايجابية من الحريري إلى السوريين، إضافة إلى كلامه التطميني عن البيان الوزاري والفقرة المتعلقة بالمقاومة.
في وقت حقق جبران باسيل خرقا نوعيا بتوزير مسيحي عوني شوفي للمرة الأولى في وزارة المهجرين، التي ستنتهي مهماتها وتقفل أبوابها مع نهاية هذا العهد.
صار يمكن الحديث من دون مغالاة ولا تبجح عن مايسترو جديد اسمه جبران باسيل. ما قاله اليوم في مؤتمره الصحفي يصلح لأن يكون خارطة طريق لبيان وزاري مستقبلي، ولخطة رباعية لسنوات العهد المقبلة. في القابل من الأيام والسنين، سيتحدث كثيرون عن جبران باسيل وسيسمعون عنه أكثر.
الحكومة الأولى للعهد انتظرها اللبنانيون طويلا. حكومة الأمل والعمل. حكومة تحقيق الوعود والتزام العهود. واليوم عيد دخول المسيح إلى الهيكل، الهيكل نفسه الذي عاد إليه بعد سنوات ليطرد التجار والفجار منه لتكون لنا حياة وتكون أفضل.