لأنها 13 نيسان، ولأن الذاكرة أقوى من الذكرى، ولأن التاريخ يعيد نفسه في هذا الشرق التاعس، لأن أغبياء كثرا لا يتعلمون، ونحن تعلمنا ولا نريد له أن يتكرر.
على مسافة أميال من بيروت، عند ما يعرف بنهر الكلب أو نهر الذئب كما كان الرومان يسمونه، طريق روماني قديم يستطيع المرء حتى يومنا أن يقرأ نقشا على صخرة ما زال ظاهرا، رغم عتق الزمان وقرون النسيان وإهمال الإنسان.
الامبراطور ماركوس أوريليوس انطونيوس أوغسطس. هو الامبراطور الذي وسع هذه الطريق فشق الجبل الصخري المشرف على النهر. مذاك الحين أصبح للتاريخ طريق. طريق داستها أقدام الفاتحين وتراجعت عليها أقدام المغلوبين المنهزمين. طريق الأمم من صور إلى انطاكيا العظيمة. مدينة الله العظمى وايقونة أورشليم العليا. طريق للفينيقيين والآشوريين والمصريين والفرس والاغريق والرومان والصليبيين والمماليك والعرب والغرب. انتصروا وانكسروا. جاؤوا ورحلوا. بقيت الطريق وبقي البحر وبقي الجبل.
في 13 نيسان لم ندعهم يمرون. لكننا اليوم نغفر ونسامح لشقيق انقلب عدوا وشريك تحول خصما. اليوم لم نعد نرى أعداء ولا نريد عداوة. ضربنا كشحا عن الماضي وتركنا للمحبة أن تمحو الصور البشعة من لوح ذاكرتنا.
لكن في 13 نيسان وإلى ملء الزمان، لن ننسى الدماء والشهداء، شموع جنازاتنا ودموع أمهاتنا، نعوش شبابنا إلى القبر ونقوش أحزاننا على الصخر، قوافل الأرجوان ومواكب الغار وشلوح الأرز.
لم يعرف اللبنانيون راحة ولا استراحة منذ قرون، ولا عرفوا الاستقرار إلا لماما ونادرا في لبنان الكبير. ضروب تآمر وهبوب فتن وروائح عفن وندوب شجن. مئات 13 نيسان ونحن وطن على بساط كفن. كنا بالحرب العسكرية وانتقلنا إلى ضرب المعادلة الديمغرافية وفرض انقلابات سياسية وصرنا بالعاصفة الاقتصادية.
في الحرب تهجير وتدمير، في السلم المزيف تهويل وتقتيل، في الاقتصاد الكاذب دجل وفشل، ازدهار خائب ونجاح كاذب.
أخذوا منا حياتنا وصحتنا وسرقوا مستقبل أولادنا، سطوا على أحلام شبابنا، “طفشوهم” وهجروهم ونصبوا أولادهم وحاشيتهم وزبانيتهم وأزلامهم “باش بزق” على هيكل الفساد و”انكشارية” على بيوت المال.
اللبناني الآدمي المثابر، الصابر، المجالد، المكابد على صنوف الدهر وأصناف العهر، يواجه اليوم أسوأ كوابيسه. ادخر بعضا من مال لليوم العصيب خشية غدرات الزمان وعثرات الحرمان، يأتيه من يقول له إنه سيكون هناك اقتطاع من مدخراته وتطيير لحساباته. شائعات ينفونها وخبريات يتنصلون منها.
“هيركات” لن تمر قط. هذه المرة سيقاتل الشرفاء وظهورهم إلى الحائط، وصدورهم إلى في مواجهة الزعران.
الحكومة التي فيها نأمل، عليها أن تذهب إلى أوكار الأفاعي وقصور العقارب والحدائق المعلقة ل”دبيحة” الحرب و”شبيحة” الطائف، إلى الأملاك البحرية والنهرية، إلى التهرب الضريبي، إلى رش مبيدات الفساد وحشرات السرقات، إلى القبض على القبابيط والجلابيط الذين تحولوا من سلاطعين إلى سلاطين ومن سمك بزري إلى قرش وحوت، دخلوا الادارة والمؤسسات حفاة عراة وخرجوا منها إلى اليخوت والناطحات. فلتذهب إلى المحروقات والنفايات والاتصالات والهندسات والاحتكارات، إلى مخبر عند أحد “الأبوات” صار من أصحاب المليارات. اذهبوا إلى أبناء الضلال واتركوا أبناء الحلال. اذهبوا إلى الذين أقاموا احتفالات بالملايين في وقت يتضور الناس جوعا ويئنون ألما. اسحبوهم من مواخيرهم ومناخيرهم. افضحوهم وزجوهم في السجن مع أننا نطالب بأكثر. وعندها، عندها فقط، فلتفعل الحكومة ما تشاء لكن ليس قبل ذلك.
أموال اللبنانيين وجنى عمرهم ليس مزحة، وليس ألعابا نارية استعراضية ومفرقعات خطابية وعنتريات لفظية. المس بأموال اللبنانيين الشرفاء الكرام، هو جريمة واعتداء مباشر على حقوق اللبنانيين المصانة بالدستور. أي خطوة من هذا النوع هرطقة وانتحار وسقوط في المحظور. حتى الآن يعول اللبنانيون على حكمة الحكومة ورزانة رئيسها، ورفض رئيس البلاد لأي مس بمدخرات اللبنانيين.
في 13 نيسان، كما وقفنا بالأمس، نرفض اليوم أن يتحول الوطن إلى كفن.